أربعون ربيعاً.. والقوس صعودًا

موقع العهد الإخباري-

د. علي مطر:

ولد من رحم الصمود، فأنبتته الأرض نباتًا حسنًا، “ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا”.. حمل النصر لواءً والغلبة وعدًا إلهيًا؛ فصدق وعده في شتى الميادين.. ها هو حزب الله قد بلغ أشده، ببلوغه الأربعين ربيعاً، ليتمّ كامل الحكمة والعلم، بقيادةٍ حكيمةٍ، وكوادر يملكون القدرة والصبر وحصنًا مجتمعيًّا جنبًا بجنب. أربعون ربيعًا حافلة بالإنجازات والانتصارات حررت لبنان وحمته ودافعت عنه، قدم فيها حزب الله كل ما يمكن من أجل مجتمعه في مقاومة العدو والظلم والفقر والعوز وخدمة المستضعفين، وبين انطلاقته الأولى وتوسطها وبلوغه الأربعين، كان حزب الله يدافع عن لبنان وبنائه وحماية وحدته والتلاقي بين أبنائه والعيش المشترك فيه.

 

أربعون ربيعاً، نشأ فيها حزب الله في ظلّ ظروفٍ حالكةٍ مرّ بها لبنان، وكانت نشأته كمقاومة أمرٌ طبيعيٌّ لرفض الاحتلال وردع العدوان عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. لذلك؛ فقد غلب على هذه النشأة طابع المقاومة. وبعد مرور ما يقارب 18 عاماً حتى عام 2000 عملت المقاومة على توجيه ضربات وتسجيل عمليات عدّة في مواجهة الاحتلال وتحرير البلاد، وخاضت حروباً وانتصرت دفاعاً عن لبنان، وحفاظاً على الكيان اللبناني، وأسقطت مشاريع عدة لأسرلته، من تموز 1993 إلى نيسان 1996 وصولاً إلى تحرير أيار 2000 ليصبح لبنان كياناً مستقلاً محرراً من الاحتلال. من ثمّ فرض حزب الله نفسه كقوة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها للدفاع عن لبنان، بعد انتصاره في عدوان تموز 2006 على الكيان المؤقت. فلولا هذه المقاومة ما كان هناك دولة لكي يتم بناؤها والعمل في مؤسساتها. وهذه هي الخطوة الأولى والأساس في مشروع بناء الدولة.

أربعون ربيعاً، والمقاومة غيرت خلالها موازين القوى، بعد أن كانت ثلة من المجاهدين المؤمنين المستضعفين، نصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم، ما كان أحد ينظر لهذه القوة الصغيرة التي تضم مجموعات صغيرة من الشباب في البدايات، لكن هؤلاء الشباب وضعوا نصب أعينهم كلام الإمام علي “ع”: “تزول الجبال ولا تزل. عض على ناجذك. أعر الله جمجمتك. تد في الأرض قدمك. إرم ببصرك أقصى القوم. وغض بصرك واعلم أن النصر من عند الله سبحانه”، نفذوا كلام أميرهم فانتصروا وبلغوا اليوم أشدهم، ينصرون الله فينصرهم ويثبت أقدامهم، ويقدمون الشهداء من المجاهدين والقادة فداء للبنان ومسيرة المقاومة.

أربعون ربيعاً، تربى فيها شباب حزب الله على النوايا الطيبة والإيمان بالله والأخلاق الحميدة، فأحبهم الله وأحبوه، وأحبهم الناس وأحبوهم، وكانوا أهلاً للعطاء والتضحية والثبات والثقة، ما جعل خصمهم وعدوهم وصديقهم يؤمن بقدراتهم وإراداتهم وقوتهم وتصميمهم على النصر. وها هم بعد أن حققوا حلم التحرير عام 2000 والنصر في تموز والتحرير من الإرهاب التكفيري، جعلوا الناس يؤمنون أن بوجود هذه المقاومة باتت القدس أقرب، هذه القدس التي تأبى كما قال الإمام المغيب السيد موسى الصدر أن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء، وهو ما يحسب له العدو ألف حساب، ويغير استراتيجياته من تهديد حزب الله الاستراتيجي إلى تهديد وجودي.

أربعون ربيعاً، وحزب الله متجذر في لبنان بتجذر أبنائه، ثابتٌ في هذه البلاد بثبات جبالها. لم تكن نشأته عابرةً أو خاليةً من هذا التاريخ والامتداد الجغرافي اللبناني يلتف حوله جمعاً غفيراً من اللبنانيين، لما يمثله من شرعية مقاومة تحرر لبنان وتحميه وتساهم في بناء الدولة.

أربعون ربيعاً، وحزب الله يؤكد أنّ لبنان هو وطننا ووطن الآباء والأجداد، كما هو وطن الأبناء والأحفاد وكل الأجيال الآتية، وهو الوطن الذي قدّمنا من أجل سيادته وعزته وكرامته وتحرير أرضه أغلى التضحيات وأعزّ الشهداء. هذا الوطن نريده لكل اللبنانيين على حد سواء، يحتضنهم ويتسع لهم ويشمخ بهم وبعطاءاتهم. ونريده واحداً موحَّداً، أرضاً وشعباً ودولةً ومؤسسات، ونرفض أي شكل من أشكال التقسيم أو “الفدرلة”، الصريحة أو المقنَّعة. ونريده سيداً حراً مستقلاً عزيزاً كريماً منيعاً قوياً قادراً، حاضراً في معادلات المنطقة، ومساهماً أساسياً في صنع الحاضر والمستقبل كما كان حاضراً دائماً في صنع التاريخ.

أربعون ربيعاً، لم يعمل الحزب فيها بالمقاومة فقط، مع أنّه ينطلق من كل أعماله من ضرورة هذه المقاومة، على المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية، فهو يهتم بمصير ومستقبل لبنان، ويساهم في إقامة مجتمع أكثر عدالة، مجتمعٌ يتطلع إليه اللبنانيون. وقد فرض حزب الله نفسه في المعترك السياسي، دفاعاً ونصرةً للمستضعفين من هذا الشعب، ولكي يحمي هذه المقاومة في السياسة ايضاً عبر الدخول بدايةً إلى مجلس النواب عام 1992 وهو من المعروف عن نوابه في البرلمان أنهم يتميزون بالعمل بجدية عبر طرح البرامج الجديدة، فضلاً عن أن للحزب حضوراً فاعلاً في النقابات والاتحادات الطلابية والمهنية والعمالية، وهذا جزء هام جداً وأساسي من مشروع بناء الدولة.

أربعون ربيعاً، أظهر فيها حزب الله أنه يريد الدولة التي تصون الحريات العامة، وتحرص على الوحدة الوطنية والتماسك الوطني، والقادرة التي تحمي الأرض والشعب والسيادة والاستقلال. يريد بناء الدولة القائمة في بنيتها على قاعدة المؤسسات الحديثة والفاعلة والمتعاونة، والتي تلتزم تطبيق القوانين على الجميع، وتعتمد على أصحاب الكفاءات العلمية والمهارات العملية وأهل النزاهة. ويريد بناء الدولة التي تتوافر فيها سلطة قضائية عليا ومستقلة وبعيدة عن تحكّم السياسيين، وتُقِيْم اقتصادها بشكل رئيس على قاعدة القطاعات المنتِجة، وتعمل على استنهاضها وتعزيزها، والدولة التي تعتمد وتطبق مبدأ الإنماء المتوازن بين المناطق، وتعمل على ردم الهوّة الاقتصادية والاجتماعية بينها، والتي تهتم بمواطنيها، وتعمل على توفير الخدمات المناسبة لهم من التعليم والطبابة والسكن.

أربعون ربيعاً، ولم يترك حزب الله لبنان عرضة لمشاريع التقسيم والتطبيع والمساومات، ولم يتخل عن مسؤولياته تجاه اللبنانيين، وهذا ما جعل الولايات الأميركية وحلفائها يحاولون تشويه صورته وتحميله مسؤولية الأزمات، وذلك لتبرئة حلفاء أميركا والسعودية الذين سرقوا لبنان ونهبوه بسياساتهم وتصرفاتهم من التسعينيات إلى اليوم. وأربعون كانت التجربة فيها ناصعة البياض على كل المستويات وبحسب قدراتها ومقدراتها، في المقاومة وفي السياسة وفي الإنماء وفي مساعدة الفقراء والمستضعفين على تخطي الأزمات، عبر كسر الحصار على مصادر الطاقة، وفي ملف الدواء والمواد الغذائية وغيرها من الملفات كالكهرباء والمياه وإنماء البلدات والطرقات والبنى التحتية.

أربعون ربيعاً، ولم يترك حزب الله دوره اللبناني، ولم يخرج عن الهموم اللبنانية، إلا أنه عندما يعمل في الملفات الإقليمية، يعمل انطلاقًا من ضرورة الاستفادة من قوته، لتحرير لبنان من الهيمنة الأميركية، وجعل لبنان دولة ذات مؤسسات وقرارٍ حرٍّ. دولة يبنى نظامها السياسي والاقتصادي وفق رؤى وتطلعات شعبها، لا عبر رؤى وتطلعات الأميركيين والصهاينة ودول التطبيع وبعض أدواتهم التي تسعى لتحقيق مآربهم في هذا الوطن، لجعله مطية لهؤلاء من أجل تحقيق مشاريع الأميركي والصهيوني لا غير. هكذا هو حزب الله الذي يعمل بكل الملفات في الداخل والخارج انطلاقًا من المصلحة اللبنانية أولاً وآخراً.

إنها الأربعون ربيعًا، أربعون الحكمة والعلم والصبر والأخلاق والتواضع، وهي أربعون القوة والقدرة والعزة والكرامة والنصر، أربعون ربيعاً لا شيخوخة فيها، لأن هذا الحزب لديه أجيال مختلفة متكاثرة مترابطة، مستعدة دائماً لخدمة مسيرة حزب الله، تعمل تحت لواء قيادة حكيمة عظيمة ذو خبرة وعلم وإحسان ومحبة لأولادها تخرج الأجيال بالألوف المؤلفة وترفد شبابها دائماً وتعلمهم وتؤطّرهم لكي يستمر قوس هذا حزب الله صعوداً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.