أشباح بشرية لا ترحم

iman-moustafa-boy

موقع إنباء الإخباري ـ
إيمان مصطفى:
إننا أحياناً قد نعتاد بعض المشاهد حتى تصبح جزءاً منا ونصير جزءاً منها, وفي بعض الأحيان تعتاد عين الإنسان على بعض الألوان وتفقد القدرة على أن ترى غيرها.
وحده ذلك العجوز شدني إليه من بين كل المتسولين, الذين اعتدنا رؤيتهم يملأون الطرقات ويفترشون الأرصفة والكثير منا لم تعد تهزه مشاعر الشفقة نحوهم.
كان منظره يستدر الشفقة ويقطع نياط القلب, عجوز تحاماه الهرم والعوز, وأناخ عليه بؤس الأيام, يجر كرسيه المتحرك بضعف جلي حزين, صوته الضعيف الحزين المستعطف كان كافيا ً ليبلغ  مسمعي, نظرت إليه عن كثب… لا أعرفه, ولكني خاطبت ملامحه التي توحي بالتأهب للسفر والاستعداد للرحيل, فكل تجاعيد وجهه تحكي قصة قساوة دهر ومرارة حرمان.
على ناصية شارع فرعي بأحد الأحياء الشعبية كان يأخذ مكانه، يستعطف المارة ويستجدي الخيّرين ولكنه لم يجد رثاء أحد لحاله أو أي تعاطف معه, بل انهمرت دموعه من سخريتهم ومن سوء خلقهم معه واستهزاء اصحاب الفانات له.
موقف آخر شدّني لطفل متسول يقف على قارعة الطريق، يكفكف دموعه. كانت تبدو على الطفل علامات التعب والإعياء جراء عمل يوم شاق و طويل, سألته عن السبب… فأجاب بصوت ضعيف منهك: اليوم لم أستطع جمع المبلغ المطلوب مني، ولو عدت إلى البيت سوف يضربني أبي, ويرسلني حتى لو في منتصف الليل لأعمل…
قصصهم ليست جديدة، وقد قرأنا الكثير منها في الكتب والمواقع والروايات، ولكنني لأول مرة ألمسها واقعاً…  فدموعهم أوقظت في داخلي كل مشاعر الحياة وذكّرتني بقصة رواها لي أحدهم, ومفادها أنه صعد في وقت متاخر من الليل مع سائق تاكسي قد جاوز الخمسين بسنين … سأله عن حاله وعن سبب عمله حتى وقت متأخر، فقال إنه أمضى شبابه بحثاً عن لقمة يسد فيها جوع أطفاله بل سعى ليؤمن مستقبلهم, فاشترى مبنىً كاملاً ليعطي كل ولد من أولاده شقة, وتكفل بزواجهم وكتب الشقق باسمهم في حياته, فما كان منهم إلا أن طردوه وزوجته من المبنى! وها هو يصل نهاره بليله ليؤمن أجار منزله وثمن قوته والأدوية له ولزوجته!
ترك العجوز المسن في نفسي أكثر من سؤال حائر.. فقد أدركت بعد سماع القصة بكل مشاعر الحدس الإنساني أنني يجب أن اذكره وأروي قصته… فقد استيقظت في داخلي مفاهيم الحق والباطل والصواب والخطأ والظلم والعدل كلها في لحظة.
صغار لا عائل لهم وعجزة لا قيّم على شؤونهم، وأشباح بشرية لا ترحم.. أناس لا تهزها مشاهد الدماء والقتل والحروب في العالم.. فكيف ستهزها مشاهد إنسانية ليست سوى صورة مصغرة لمعاناة أشمل، يكتوي بنارها يومياً الآلاف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.