أكبر من أزمة حدود..ما وراء الصراع الصيني الهندي؟

موقع الخنادق-

زينب عقيل:

“هندي.. صيني.. إخوة.. إخوة”. هذا الشعار ظهر في أول الخمسينيات من القرن الماضي، وتحوّل إلى أغنية شهيرة في الهند والصين، يمكن أن يكون نقطة الانطلاق لفهم العلاقات الهندية الصينية الملتبسة والمتوترة منذ أكثر من 70 عامًا. إذ بدأت العلاقة بآمال وردية وتآخي وتعاون، ثمّ تحوّلت إلى توتّر فحرب ساخنة عام 1962، فمناوشات على الحدود تدور من وقت لآخر، وما زال هناك آلاف من الجنود الصينيين وآلاف من الجنود الهنود في مواجهة بعضهم البعض.

الصراع الهندي – الصيني على ماذا؟

الحدود هي السبب المباشر للصراع الهندي الصيني، بل يمكن القول إنها السبب بالوكالة. إذ ثمة أسباب أخرى غير مباشرة، أعمق وأقوى وأهم بكثير من مسألة الحدود المتنازع عليها، والتي تمتد على طول 3440 كيلومتر مربع. يتركّز النزاع تاريخيًا على نقطتين اثنتين: الأولى في الغرب وهي منطقة أسكاي تشن، والثانية في الشرق وهي منطقة أرمشال باراديش، وهي ولاية في الهند. تعتبر الصين أن الهند تحتل آرمشال براديش. والهند تعتبر أن الصين تحتل أسكاي تشن، التي تقع بالقرب من منطقة كشمير الكبرى.

ومثل الكثير من الخلافات الحدودية، فإنها تعود لحقبة الاستعمار البريطاني، الذي لطالما تعمّد ترسيم الحدود بطريقة تؤدي إلى الخلافات والانقسامات، ومطالب إنفصالية. حيث تقوم بتقسيم العرقيات والقوميات بين دولتين، أو تحدّد منطقة حيوية واستراتيجية بالنسبة إلى دولة، فتضمّها لجارتها. وبالتالي تضمن استمرار الصراعات بين الاثنين، وقدرتها على التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد.

لم ترضَ الدولتان بالترسيم الذي وضعه البريطانيون، واستمرت الخلافات خلال الاستعمار وبعده، وبعد استقلال الهند عام 1947، تجددت الخلافات الحدودية مرة أخرى، لكنها لم تكن خلافات ملتهبة، وتظل هذه الحدود هادئة إلى أن تحصل خلافات على ملفات أخرى، تلهب الخلاف الحدودي.

ما هي الأسباب التي تبقي الحدود ملتهبة؟

سنة 1954، جرى لقاء بين الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ورئيس الوزراء الهندي جواهر يال نهرو. كشفت تفاصيل هذا اللقاء عن محاولة ماو تسي استقطاب الهند، باعتبارها شريكة للصين في المعاناة بسبب الاستعمار، وكلاهما من دول العالم الثالث. وبعد هذا اللقاء انطلق شعار هندي صيني أخوة أخوة. لكن بعد فترة قصيرة، تقاطع مسار الدولتين وتعارضت مصالحهما بحسب رؤيتهما للتطورات العالمية:

– كانت رؤية ماو تسي أن الهند مثل كل دول العالم الثالث يجب أن تقوم بثورة ضد المصالح الغربية تحت القيادة الشيوعية. أما الهند، فكان لديها وجهة نظر مختلفة، إذ أرادت أن تنأى بنفسها عن المعسكرين الشرقي والغربي، وقادت حركة سمّيت حركة عدم الانحياز، التي انضم إليها العديد من الدول. وكان ذلك أول إحباط في العلاقة بين الهند والصين.

– أول خلاف بارز كان على التييت التي كانت دولة مستقلة بحسب الترسيمات البريطانية، والصين كانت تعتبر أنها جزء من الأراضي الصينية التاريخية، وبالفعل دخلتها عام 1950 بالقوة. فبدأت انتفاضة تصاعدت بين عامي 1956 إلى 1958 استطاعت السلطات الصينية إخمادها بشكل كامل، وفرّ زعيم التبيت الروحي دلايا ياما إلى الهند، الأمر الذي أغضب الصينيين واعتبروه حماية للمعارضين والمنشقين والإنفصاليين الذين يثيرون الشغب على الأراضي الصينية، وعلى هذه الخلفية بدأت المشاكل الحدودية تتصاعد، وتحديدًا في سكاي تشن في منطقة كشمير، التي تعدّ أخطر منطقة في العالم.

– بدأت الحرب بين البلدين عام 1962، وانتصرت فيها الصين نصرًا حاسمًا بعد 32 يومًا. اعتبرت الصين أنها علّمت الهند درسًا، ثم انسحبت وعادت أدراجها دون تغيير في الحدود. ذلك أن الخلاف الحدودي لم يكن المحرك الأساسي في الحرب، ولكن الحدود كانت تلتهب عندما تلتهب الخلافات السياسية.

– استمرّت الحدود المتوترة على نفس المنوال، هادئة وصاخبة بعيدًا عن قضايا الترسيم، وظهرت توترات في الأعوام 2013 و2014 بدون وقوع ضحايا، إلا أن عام 2020 أسفر عن سقوط 20 جنديًا هنديًا في وادي جالوان في منطقة لاداخ المتاخمة لهضبة التبيت، وأعلنت الصين عن خسارة 4 فقط. حصل ذلك لأول مرة منذ 45 عامًا. حيث كانت الأوضاع السياسية بين البلدين محتدمة، عندما قررت الهند تكثيف البنية التحتية على نهر غالوان المنطقة الأقرب لخط الحدود المؤقت بين الهند والصين، الأمر الذي أثار حفيظة بكين التي اعتبرت أن تعزيز هذا الطريق يمكن أن يعزز قدرة دلهي على نقل الرجال والعتاد بسرعة في حالة نشوب صراع. خاصة أن هذه المنطقة تديرها الصين.

– بعد أكثر من عامين على حشد الدولتين عشرات الآلاف من القوات في أعقاب اشتباكات دامية على الحدود، عاد التوتر إلى الحدود في قطاع تاوانغ النائي شمال شرق الهند. أسفر عن إصابات طفيفة.

مناوشات بأقل تكلفة بشرية

من الأمور اللافتة جدًا للخلافات الحدودية بين الدولتين، أنّ عدد الخسائر البشرية قليلة، نسبة إلى المدّة الممتدة من العام 1975 إلى اليوم. ذلك أن الدولتين قررتا منع استخدام النار بينهما. فتقتصر المناوشات الحدودية على الأيدي والركلات والهراوات وفي المواجهة الأخيرة كانت من خلال القبضات الحديدية والهروات، كأنها حرب شوارع، كل طرف يحاول أن يزيح الآ’خر دون استخدام النيران. ذلك أن الدولتين النوويتين لا تريدان جرّ العالم إلى الكارثة. والسبب الآخر هو أن الصيني والهندي ليس بينهما ضغائن تاريخية مثل تلك التي بين الصين واليابان أو الهند وباكستان، ثمة مناوشات وخلافات ولكن لا توجد ضغائن كبيرة، بل منافسة متزايدة.

خلاف طبيعي تؤججه الولايات المتحدة

نظرًا للحجم الضخم لأكبر بلدين في العالم، كما أنهما قوّتان نوويّتان، بالإضافة إلى أنهما جارتان تتشاركان حدودًا طويلة، وكلاهما لديه طموح بأن يصبح قوة عظمى في هذا العالم، فإن هذا المستوى من الخلافات طبيعي جدًا في محاولات حفظ المصالح وفرض النفوذ، والأهم هو المنافسة. وعليه، فإن السبب الأساسي للخلافات يكمن في صعود البلدين، ورغبة كل منهما أن يلعب دورًا أكبر في محيطه وعلى الساحة الدولية.

الخوف الأكبر لدى الهند هو علاقات الصين مع باكستان إذ تعتبرها أكبر خطر عليها، والخوف الأكبر للصين هو التقارب بين الهند والولايات المتحدة التي تظهر دائمًا عداءها للصين، ولا تخفي رغبتها بأن تكون الهند هي مخلب القط الذي يلجم الصين. وتأمل أن تكون الهند قوة مكافئة في جنوب آسيا تحدّ من تطلع الصين وصعودها القوي في العالم. كما تتخوف الصين أن تقوم الولايات المتحدة بمحاصرتها من خلال تحالف بين الهند وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.

الصين تسبق والهند تلحق

يأخذ شكل الصراع التنافسي بين الدولتين أشكالًا متعددة، منها مثلًا الصناعة لتطوير أساطيل تجوب بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي والمحيط الهندي. كما أن هناك صراعًا تكنولوجيًا لتطوير المجال العسكري والاتصالات، فإذا أطلقت الصين قمرًا، ستطلق الهند آخر، وإذا طورت الصين صاروخًا ستطور الهند آخر مماثلًا.

ما زال الصراع إلى هذه المرحلة يميل إلى كفة الصين. لأن الناتج المحلي الإجمالي لها هو خمس أضعاف الناتج المحلي الهندي. وحجم الإنفاق العسكري يعكس هذه الفجوة الكبيرة، فبحسب الأرقام المعلنة عام 2017، أنفقت الصين أكثر من 156 مليار دولار على ميزانية التسلح فيما أنفقت الهند 52 مليار دولار. وكلاهما في صراع محموم لتأمين احتياجاتهما من موارد الطاقة، وكلاهما أكبر مستوردين للنفط للعالم إذ ليس لديهما موارد محلية. ولذلك يعتبر التنافس على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جزءً من صراعهما، وهو يقتصر على الصفقات، ومعامل النفط، وتأمين عقود البترول، والموانئ خاصة في باكستان وإيران وسلطنة عمان. وبما أنّ أمن هذه المنطقة مهمّ جدًا للأمن القومي لكلا البلدين، من المتوقع أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تصاعدًا للصراع الهندي الصيني وخصوصًا بعد الانسحاب الأمريكي من كثير من ساحات العالم.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.