إيران .. والوجودية السعودية

صحيفة الصباح العراقية ـ
لينة بلاغي فحص *:
يشاع في العديد من المحافل العربية والاسلامية تحديدا، نخبوية وشعبوية على السواء، سردية مفادها، وجود نوع من التآمر الايراني – الاميركي، لاستهداف العالم العربي، وان السعودية، هي احدى الحلقات الاساسية في هذا الاستهداف، وان مجمل المشهدية الدولية التي تتعلق “ بالخطر الايراني، والتوسع الايراني ، والنفوذ …” وغيرها من التوصيفات ، ما هي الا سيناريو مخادع، يهدف الى استنزاف العالم العربي، من قبل اميركا وشركائها، ووفق طبيعة هذا السيناريو فان ايران تعد احد الشركاء.
ان الوقوف على الازمة السعودية الايرانية، لا يمكن ان يتحقق نسبيا الا من خلال قراءة المشهدية الاكبر في صراع القوى الكبرى على موقع ريادي في المنظومة الدولية المرتقبة، ولا بد من نقطة ارتكاز للانطلاق في اعادة رسم الوقائع الحالية وارتباطها في المنظومة الدولية عموما.
على الرغم من ان العقد الاول من القرن الحالي ختم على مشهدية سقوط نظامين دوليين هما النظام الثنائي القطبية، اي الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي سابقا، بكل ما مثلاه من صراع بين معسكري الشرق والغرب او القوى البحرية والبرية، والاحادي القطبية ( التفرد الاميركي) ، الا انه ، بطبيعة عمل المنظومات الديناميكية، فتح الباب على افق دولية محمومة بالقتال للبقاء ، مما جعل المنظومة الدولية بمجملها عرضة للانهيار، تخللها صعود صيني اقتصادي قوي ماليا ولكن قلق سياسيا وامنيا، ومحاولات روسية ليس لاستعادة امجاد امبراطورية او اتحاد سوفياتي اندثر، بقدر ما هو محاولات حثيثة للحؤول دون مزيد من المحاصرة الاميركية، والتي لم تتوقف مطلقا، لان التوقف عن التوسع والتدحرج الاميركي يعني اتاحة المجال امام هذه القوى الصاعدة مجددا . والتوسع والتدحرج الاميركي يستهدف المكان بابعاده المختلفة وتعد منطقة الشرق الاوسط ( الدول العربية بالاضافة لايران وتركيا ) ، احد هذه الاماكن، او عقدة اساسية من عقد النظام الدولي المرتقب ، لما يحمله هذا المكان او الاقليم من قيمة ودور ضمن المنظومة .
لقد سمح حمى التنافس الحاد على المستوى الدولي لهامش واسع من المناورة للقوى الاقليمية من الدرجة الاولى ، والتي ياتي في طليعتها ، ايران ، تركيا، الكيان الصهيوني والسعودية ، بعدما سقط من المعادلة في الضربات الاولى، ابان الانظمة الدولية (الحرب الباردة والتفرد الاميركي ) بالتالي كل من مصر والعراق وليبيا. تحاول هذه القوى الاقليمية حاليا، تلمس موقعها ضمن انماط ثلاثة من الرؤى الاستراتيجية الدولية، الرؤية الاميركية الساعية الى السيطرة على مختلف المفاتيح الجيوبلتيكية على المستوى العالمي، واعادة ترتيب العالم وفق منظومة تضعها ومن خلفها مجموعة راسماليين حد التوحش، على قمة هرمية المنظومة الدولية ، المتشكلة بدورها من منظومات اقليمية او نظم اقليمية تابعة ، من بين هذه النظم ولعلعة الاعقد بينها ، تاتي منظومة الشرق الاوسط بزعامة وقيادة اسرائيلية .
اما الرؤية الاخرى ، فهي الرؤية التي يسوق لها منظرون روس كالكسندر دوغن ، ترتكز على نظام متعدد القوى بتمايز روسي، متعاون ، مع عودة الى القيم الانسانية والدينية، لمنع انهيار العالم مع انهيار المنظومة الرأسمالية، وهو كما يلحظ ايضا ليس بالمشروع البريء ايضا، الا انه في المرحلة الراهنة قد يعد اهون الشرين .
الرؤية الثالثة، هي تلك التي تفرتضها القوة الاقتصادية للصين الناهضة، التي تتداخل في طموحاتها وتتناقض على المديين الطويل والقصير مع مصالح اللاعبين الدوليين السابقين، اميركا وروسيا ، لكنها طامحة الى ما يشبه الامبريالية الاقتصادية في ظل عالم تتنازعه ضراوة المصالح الاقتصادية .
من الواضح ان هذه الاتجاهات الستراتيجية الثلاثة ، تاخذ بعين الاعتبار مجمل الاحتمالات التي قد تواجهها لتحقيق مصالحها الستراتيجية على مختلف المستويات والموضوعات من هنا، تبقى القطبية المخفية في الموضوع والتي يرفض كل الاطرف الاشارة اليها وهي امكانية خروج قوى اقليمية من منطقة الشرق الاوسط لها القدرة لاسباب جغروسياسية – دينية – اجتماعية – ديموغرافية – علمية – اقتصادية ، لديها القدرة على التحول لقوى كبرى ، وما تاريخ هذه المنطقة ببعيد عن اذهان الجيوستراتيجيين ، ولاسيما انهم يدركون ان وقوع هذه المنطقة في قلب “ الريملاند “ وعلى احتكاك مباشر مع القوى البرية والبحرية ، تمنحها امتيازات هائلة لا بد من السيطرة عليها .
على ارض الواقع الدولي، جاءت الصحوة الروسية على وقع استمرارية المشاريع التوسعية الاميركية في المجال الحيوي الروسي ، واستيقظ الترقب الصيني، في ظل تسلل الحصار الاميركي وصولا الى ميانمار حاليا تحت ذرائع مختلفة انسانية وغير انسانية، اما على المستوى الاقليمي، فقد شكلت الازمة السورية تاكيدا للمؤكد ان المشروع الاميركي – الاسرائيلي للمنطقة لن يقف الا عند حد الانصياع الكامل للاعبين الاساسيين في المنطقة ، وفكفكة مجمل “ العقد “ التي تقف في وجه المنظومة الاقليمية المرتقبة، والتي وصف بعضها مدير المخابرات الامريكية الحالي مؤخرا ، اي “ايران التي تنتهي عندها مجمل عقد المنطقة “، الا ان واقع الحال يشير الى انه اخفى بعضا من الحقيقة ، من كون مجمل اللاعبين من الدرجة الاولى في الشرق الاوسط ، باستثناء اسرائيل ، هم عقد في وجه المشروع ، نظرا لترابطية المنطقة على مختلف المستويات.
ان الاستهداف يطال العالم العربي من خلال المملكة العربية كما يطال ايران وتركيا على حد سواء ، مع العلم ان للاخيرة خصوصية تتعلق ايضا بموقعها الجيوبلتيكي ، لكنها حالة اقل حراجة بالنسبة لامريكا واسرائيل من ايران حاليا .
ان اتساع النفوذ الايراني خلال السنوات الاخيرة ، من الواضح انه جاء خارج السياق المرغوب اميركيا – اسرائيليا ، ترافق مع تضافر اعلامي – سياسي دولي واقليمي ، ساهم في تقوية ما يعرف بالرهاب من النفوذ الايراني ودوره في المنطقة، ترافقت مع محاولات سعودية لاستعادة دورها المتراجع في المنطقة.
ان مراجعة سريعة للعلاقات الايرانية – السعودية، ومراقبة وتحليل بعض التجارب التي مرت بها، تؤكد انها ، غالبا ما كانت علاقات تنافسية تحت سقف القانون الدولي والدبلوماسي، ومحمية نسبيا في نطاقها الجغرافي ، تخللها مراحل ايضا شهدت فيها العلاقات مزيدا من التوتر ، الا انها لم تصل على الاطلاق الى ما حملته السنوات الاخيرة من تباعد وحدة ، ولاسيما بعد وصول المللك سلمان وابنه محمد الى السلطة .
لقد استقر الاعتقاد لدى المملكة ان كل انجاز يخدم ايران على مستوى منطقة الشرق الاوسط هو هزيمة لها على الموقع نفسه، على اعتبار ان كلا الطرفين يتنافس على الرقعة الجغرافية عينها ، الثابت الوحيد في مجمل جولة التنافس هذه، والمنتصر في هذه المعادلة من شانه ان يتحول الى قوة اقليمية لا يمكن تخطيها، من قبل القوى الدولية ، في ادارة ملفات المنطقة ، لذلك ترى السعودية أن إيران تمثل خطرا وجوديا عليها على المدى البعيد لأنها إن تمكنت من ترسيخ وجودها في سوريا والعراق ولبنان فإنها ستمتلك عمقا ستراتيجيا يمتد من طهران حتى سواحل المتوسط ، مرورا بمضيق باب المندب الستراتيجي وهو ما اكدته تصريحات محمد بن سلمان في مقابلة له مع قناة العربية بقوله: “ نعرف أن السعودية هي هدف أساس للنظام الإيراني” ، تضافرت مع ما اعتبروه استفزازا عبر تاكيد ايران ، على لسان رئيسها حسن روحاني على دور ايران الفاعل في المنطقة “لا يمكن في العراق وسوريا ولبنان وشمال إفريقيا والخليج القيام بأي خطوة مصيرية دون إيران”.
ان الاحساس بالتراجع السعودي على مستوى الحفاظ على مواقع نفوذه في المنطقة ، والتخبط الذي يعانيه ولي العهد محمد بن سلمان في تثبيت ولايته ، وفتح جبهات متزامنة داخليا وخارجيا مكلفة وخطيرة في ان معا ، دفع السعودية الى السير اشواطا بعيدة، وصفت بالمتسرعة ، والى القاء كل ما في جعبتها من امكانات في السلة الامريكية – الاسرائيلية ، على امل ان يحقق ولي العهد محمد بن سلمان اطمئنانا دوليا بعدم عرقلة مسيرته مباشرة الى الملك ، وهي اساسية نظرا للعلاقات التاريخية التي جمعت بين البلدين ، واليات تاثير الولايات المتحدة في استقرار او عدم استقرار الوضع في المملكة ، الى جانب مواجهة النفوذ الايراني عبر الاستقواء بادارة ترامب الحالية والحليف الامريكي الستراتيجي في المنطقة او قاعدتها العسكرية الكبيرة ، اي اسرائيل.
ان الوتيرة التصاعدية لفكرة “ الخوف من ايران او رهاب ايران “ كان لها تبعات خطيرة في المنطقة عموما، وتشكل عبئا للامن القومي الايراني على المستوى الداخلي، او الخارجي بقدر ما تشكل عبئا للامن القومي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، على دول المنطقة العربية على رأسها السعودية، وشعوبها، وتعتبر مدخلا اساسيا، يسمح بنفوذ واستقرار وتوسع القوى الغربية في المنطقة ، ما من شانه ان يقود عاجلا او اجلا الى مواجهات حتمية قد لا يستفيد منها اي طرف من الاطراف بل وقد تؤدي الى خسائر جمة وبديهية على مختلف الصعد من ضمنها كما بات معلوما :
– تصاعد الكباش القومي والمذهبي ، عربي – فارسي / شيعي – سني ، ولاسيما مع مساع متعمدة لدى البعض والامريكي تحديدا ، بالعزف على هذا الوتر ، ليس من مصلحة ايران او المملكة ، ان سعيهما لتوسيع مجالهما الحيوي ،في ظل وجود اقليات في كلا البلدين والاقليم ،هي معطيات تؤثر في الوضع الداخلي فيهما والخارجي لهما .
– ان فقدان الاستقرار يسهم في استهلاك اضافي بالموازنة المالية لكلا البلدين ولاسيما السعودية ، ان كان على مستوى المشاريع الاقتصادية المرغوبة!، او على مستوى معالجة الازمات الداخلية ، في ظل مؤشرات لنوع من التململ الشعبي من المستجدات المتعاقبة في هذا المجال، وترقب دولي لازمة اقتصادية تلوح في الافق الدولي، اكثر ضراوة من ازمة 2008 ، يدفعها الى اعادة دراسة جدوى سلسلة من الخطوات في سياستها الخارجية بدءا من اليمن وصولا الى فلسطين، بالتزامن مع كون فقدان الاستقرار ، سيسهم ايضا باستمرار الحصار الاقتصادي على ايران على الرغم من زوال العوائق التي فرضتها العقوبات الاقتصادية .
– واما الخيار العسكري ، فهو خيار ما عاد مستبعدا ولاسيما في ظل المتغيرات الاقليمية الحادة التي تعرضت لها المنطقة في السنوات الاخيرة ، وهو خيار سيبقى مفتوحا على مصراعيه ، اذا ما بقيت المنطقة على هذا المنوال من اللاستقرار، ولاسيما اذا ما ترك اللاعبون الدوليون ( روسيا وامريكا ) او احدهما الباب مفتوحا امام هكذا تحرك بغية اضعاف الطرفين او احدهما على حساب المنطقة . وهنا لا بد من الاشارة الى انه على الرغم من الحديث عن تسويات ما في سوريا والعراق ، الا ان كلا البلدين لا يزال عرضة لمتغيرات مفاجئة قد تحدث انقلابات في المعادلات الراهنة ، وهو امر غير مستبعد عن عموم منطقة الشرق الاوسط وتاريخها ولاسيما سوريا ،غير المجاورة لايران جغرافيا ،وهذا مطلب اسرائيلي – امريكي ، او اليمن ونتائج الصراع فيه ، وهو مطلب سعودي – اسرائيلي بغطاء امريكي ، وبالتالي مزيدا من الاستنزاف لايران والسعودية ، عبر تحويل السعودية الى حربة مواجهة عسكرية مع ايران تحت عنوان اضعاف ايران ومنظومتها خارج الحدود وقد تطال داخل الحدود ايضا.
جاء اعلان ترامب الاخير عن ان القدس عاصمة للكيان الصهيوني ليقلب المعادلات داخل الشرق الاوسط الى حد ما ويضع ما عرف “ بصفقة العصر “ على مشرحة الراي العام العربي والاسلامي ، الذي وعلى رغم الجراح اثبت انه لا يزال حاضرا ، والدولي الذي عبرت عنه تطورات اجتماعات مجلس الامن الدولي والهيئة العامة للامم المتحدة ، ما قدم فرصة لكلا المتنافسين ، السعودي بالعودة الى مكانه الطبيعي في العالم العربي والاسلامي بعنوانه قوة ذات وزن لا يستهان به او بقيادته للعالم السني في المنطقة ووقف التدهور في المنظومة الاقليمية من خلال ترجيح دفة العدو الحقيقي ، وهو ما لا يلوح في الافق ، وفرصة لايران لمحاولة الانفتاح مجددا على دول المنطقة دون اثارة مخاوفهم وهذا ايضا يبدو صعبا مستصعبا لاسيما مع الضخ الاعلامي المعادي على خلفية تناقض مصالح السعودية معها في المنطقة وقضياها .

*دكتوراه في الجغرافيا السياسية والجيوبلتيك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.