اغتيال فقها وأمن المقاومة في غزة

اغتيال مازن فقها كان يعني أن هذا الرجل شكّل إزعاجاً للعدو إلى درجة تستحق المغامرة بتنفيذ عملية في بيئة معقّدة وخطرة؛ لا يمكن للعدو أن يتحرك فيها بحرية، ولا تسهّل عليه المخاطرة بعملائه ما دام الميدان محكوماً بمقاومة جدّية تعرف ماذا تفعل، ولا تتخذ من المقاومة وسيلة استعراضية أو حتى سياسية، فهي فوق ذلك بالنسبة لمن يدير قطاع غزّة.

كشف الجريمة كاملة، وفي سياقه؛ تفكيك شبكة تجسس كبيرة وقديمة ومسؤولة عن عمليات اغتيال خطيرة وبإمكانات ضخمة، يؤكد ما سبق، وهو أن هذه المقاومة جادّة فعلاً، تعرف قيمتها، وتعرف حجم عدوها، وتعرف أن مسألة المقاومة أهم من أن تكون مادة للاستعراض، أو لتحقيق مكاسب سياسية.

تمكنت المقاومة في غزة، سواء من خلال الأجهزة الأمنية الحكومية التي وظّفتها إدارة حماس للقطاع في خدمة المقاومة، أو من خلال أجهزة المقاومة التابعة لحماس وجناحها العسكري بشكل مباشر، من حلّ اللغز في وقت قياسي، وتفكيك جريمة الاغتيال ومن يقف خلفها، في حالة تكاد تكون استثنائية، لدى القوى التي تواجه هذا العدوّ في فلسطين وفي المنطقة.

ربما تكون طبيعة العملية، من جهة مسرحها ومنفذيها، ساعدت حماس على ذلك، ولكن هذا لا ينفي جدّية وصدقية حماس في تبنيها المقاومة.

الأهمية هنا، في وجود بنية جادّة وصادقة في التعامل مع موضوعة المقاومة، وبنية كهذه، في عداء حقيقي وعنيف مع الاحتلال، لا بدّ وأن تكون مستهدفة من الاحتلال بالاختراق، وحركة حماس، كأي حركة مقاومة وتحرر تواجه الاستعمار؛ لا بدّ وأن تستهدف كذلك بمحاولات الاختراق.

وإذا كانت حماس قد أحكمت سيطرتها على قطاع غزّة من بعد العام 2007، فإن الاحتلال لا بدّ وأن يبني ويراكم على خبرته الأمنية الطويلة السابقة على سيطرة حماس، وأن يستفيد -أيضاً- من منجزاته الاستخباراتية السابقة على تلك السيطرة، فتحقيق إنجاز أمني ما لصالح الاحتلال ضمن هذا السياق متوقع في الأساس، فالحرب كما أنها في مستواها الظاهر سجال، فهي في مستواها الخفي سجال كذلك.

وهذه الحرب في الأساس غير متكافئة، وظروف حماس أكثر صعوبة وتعقيداً من أي قوّة أخرى تنسب نفسها للمقاومة في فلسطين أو المنطقة، وتقاوم بإرادتها مجردة من الممكنات المطلوبة، هذا العدو المدجج بآلته الحربية وقدراته التقنية وخبراته الاستعمارية وتحالفاته الضخمة وموارده الهائلة.

ذلك لا يوجب الاستفادة من الثغرات التي نفذ منها الاحتلال وعملاؤه لتنفيذ عملية اغتيال في قلب قاعدة المقاومة في قطاع غزة فحسب، وإنما يجب تحصين المقاومة بالعمل على إغلاق الأبواب الكبرى التي يمكن أن ينفذ منها العدو إلى شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزّة.

بالعودة إلى اعترافات العملاء التي بثّتها وزارة الداخلية والأمن الوطني في غزّة، يتبين أن العملاء الذين ظهرت اعترافاتهم قد ارتبطوا بالعدو إما باستغلال حاجتهم لتصاريح العمل، أو باستغلال أفكارهم المتّسمة بالغلو والشطط، وهو ما يحمّل المقاومة مسؤولية مضاعفة بالسعي لتوفير الأمن الاقتصادي قدر الإمكان، ومحاصرة فكر الغلوّ قدر الإمكان، والحفاظ على بيئة المقاومة رشيدة ونظيفة.

وبالعودة إلى سجل القاتل المباشر للشهيد فقها، يتبين أن للقاتل سجلاً إجراميّاً سابقاً، وممارسات ينبغي أن تكون مريبة أصلاً، وبالرغم من ذلك لم تعالج حالته بالشكل الصحيح، الأمر الذي يوجب على حماس في غزة، أن تراجع الكثير من الممارسات والمسلكيات التي من شأنها أن تخلّ بالعدالة والنزاهة.

المقاومة في أصلها أكبر من التنظيمات المقاتلة، إذ هي -كما يفترض- انبثاق طبيعي عن المجتمع، والمجتمع في هذه الحالة هو مجتمع المقاومة، وكي تظل المقاومة ابنة مجتمعها، وظاهرة طبيعية تلقائية، فواجبها لحماية نفسها بنية وفعلاً ومشروعاً قائماً ومستمرّاً، أن تحافظ على وعيها بأن المجتمع هو الأصل، ومنبع المقاومة الكبير، وهذا يقتضي مسلكية ثورية داخلية تلتزم بالنزاهة والعدالة والالتحام بالشعب والسعي لتعزيز صمود المجتمع قدر الإمكان.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.