الأميركيون غيّروا خطتهم وتحوّلوا من تفجير لبنان أمنيًّا إلى تفجيره ماليًّا واجتماعيًّا (بقلم جورج عبيد)

 

موقع التيار الوطني الحر ـ
بقلم جورج عبيد:

ماذا يريد الأميركيون من لبنان، من أزماته من شعوبه من مكوّناته من مؤسساته وحكمه وحكومته؟ هذا سؤال راود ويراود من خبر الأزمة اللبنانيّة منذ مقدماتها الأولى وانفجاراتها المختلفة مرورًا بتسوياتها المتعددة، وصولاً إلى اللحظات الحالية المليئة بالاضطرابات المتسعة التي يعيشها اللبنانيون بآفاقها ويقيّمونها بعناوينها، ويضعها المراقبون بتفاصيلها وتداعياتها المقلقة والمخيفة تحت المجهر؟

غسان تويني، رحمه الله، كان يجيب كلّ من سأله عن الدور الأميركيّ في لبنان، وهو الخبير به حتى العظم، “لا تنتظروا من الأميركيين شيئًا، لستم على بالهم ولا أنتم مقيمون في افكارهم، الإدارة الأميركيّة ليست جمعيّة خيريّة كي تتصدّق عليكم، ومن الغباء أن تصدّقوا بأن الرؤساء الأميركيين لا ينامون كلّ الليل من أجل لبنان وخوفًا عليه”، وحين يلقي سائلوه الضوء على نظرية المؤامرة Conspiracy theory كان يسخر ويقول: “هذه خرافة”، ليحتدم النقاش شيئًا فشيئًا، حتّى أتاه من قال له، وما رايك بكلام لهنري كسينجر، وأنت قد عرفته عن كثب، حين سئل، أنتم متهمون بالتآمر على لبنان وعلى الشرق الأوسط، فجاء غاية في الفجاجة والدقّة، “وأنتم أيضًا متهمون بعدم إحباط مؤامرتنا، فنحن دولة لديها مصالح في كلّ العالم، وبخاصّة في لبنان والشرق، وبسبب من ذلك نحن نحيك المؤامرات لنثبّت وجودنا من خلال مصالحنا، أما أنتم فماذا لديكم، ليس لديكم شيء تثبتون به وجودكم، وتنالون مصالحكم وتكسبونها ولذلك أنتم متهمون بعدم إحباط مؤامراتنا”. وحين سمع غسان كلام كيسينجر أطرق مفكّرًا، وعلى الرغم من ذلك لم يقتنع يومًا بنظريّة المؤامرة، وبقي غير مقتنع بها حتى وفاته.

ونذكّر وفي السياق التاريخيّ المعاصر-الحديث، ما كنّا أوردناه غير مرّة في موقعنا، بلقاء حدث بين المغفور له الوزير السابق فؤاد بطرس ووفد دبلوماسيّ أميركيّ مؤلّف من دبلوماسيين مخضرمين ومستشرقين، سنة 2007 في منزله في الأشرفيّة في بيروت، وقد تركّز النقاش طويلاً بين الشرق الأوسط والتفاصيل اللبنانيّة.

في المسألة اللبنانيّة كان الأميركيون مركّزين في مسالة النظام السياسيّ منذ تكوينه إلى سنة 2007، أي لحظة اللقاء مع المرحوم فؤاد. قالوا ما مفاده بأنّ هذا النظام اهترأ وأنتن وغير قادر على حماية المؤسسات والطوائف والبنيى، وحين سألهم المضيف، وماذا تريدون، قالوا بما معناه أيضًا بأنّهم يرنون إلى التغيير فيه، ولمّا شرح لهم المضيف الصعوبات الجوهريّة المتكئة على طبيعته الطائفيّة والمذهبيّة، جاء جوابهم بأنّ التغيير سيمرّ بمخاض طويل وله ظروفه وقد بات قريبًا.

تصريح ديفيد شينكر الذي نشر صبيحة هذا اليوم، أعاد العقل القارئ والمستنبط إلى المحطات التاريخيّة المتشعبة في العلاقة اللبنانيّة-الأميركيّة والشديدة الالتباس والالتواء. ينظر الأميركيون إلى لبنان على انه مطل ومعبر، ووطن قابل للتغيّر والتبدّل حسب استواء المصالح الأميركيّة واتجاهاتها. لقد بات معلومًا بأن ليس للإدارة الأميركيّة شركاء بل أجراء، وليس لديهم أصدقاء بل عملاء، وليس لديهم حلفاء أقوياء بل أناس هزلاء. هكذا هم على ممرّ التاريخ، دخلوا ويدخلون الدول بغية وضع اليد على ثرواتها وامتصاصها واستثمارها ليتجهوا بعد حين إلى إفلاسها. إنّهم القتلة الاقتصاديون، الذين يفرضون أنماطهم بمنطق الجزرة والعصا، وحين تفرغ خزائن الدول من الأموال يضعونها تحت وصاية البنك الدوليّ، الذي له الحقّ في إدارة الدولة واقتصادها وترسيم سياستها.

جون بركنز كان رائدًا في ذلك، وفي لبنان رواد كثيرون عملوا ويهملون على إفراغ الدولة من محتوياتها ومعنى وجودها.
تشدّنا تلك الواقعية في الإضاءة التاريخيّة على العلاقة اللبنانيّة-الأميركيّة، وتحفّزنا وانطلاقًا من تصريح ديفيد شينكر لطرح التساؤل التالي: “ماذا تريد أميركا من لبنان ولماذا تشنّ الحرب عليه في عهد الرئيس ميشال عون وفي حكومة الرئيس حسّان دياب على الرغم من المفردات التهدويّة التي بثّتها السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا؟

على هذا الأمر لفتت مصادر عارفة، بأن تصريح شينكر يفسّر باحتمالين وبوجههين:
1-الوجه الأوّل يمثّل تسليمًا نوعيًّا بدور الحكومة اللبنانيّة برئاسة الدكتور حسان دياب. وتقول تلك المصادر بأنّ الإدارة الأميركيّة قد باعت حلفاءها الأساسيين، الذين قامت بتجميعهم في سبيل إثارة الشغب والانطلاق نحو قلب الطاولة على الرؤوس، كما أنّها اكتشفت بأنّ حلفاءها لا يملكون على الإطلاق أوراق القوّة في حسم الصراع على الأرض لصالح الرؤية الأميركيّة المطلقة بمصالحها في لبنان وفي المنطقة. وقد رأت وبحسب تلك المصادر بأنّ أوراق القوّة قائمة في حوزة حزب الله، وأي معركة بأبعادها الأمنيّة والعسكريّة ستكون بالنسبة لهم خاسرة وستنهي الدور الأميركيّ في المنطقة حتمًا مع حسم المعركة لصالح العهد والحكومة والجيش.

2-الوجه الثاني يمثّل تسليمًا خبيثًا بالكليّة بالحكومة اللبنانيّة برئاسة الدكتور دياب بكلامه الصريح وقد قال فيه: بأن رسالة الحكومة اللبنانيّة إلى صندوق النقد الدوليّ IMF بطلب المساعدة الماليّة اعتراف وتسليم من قبل الحكومة اللبنانيّة بانّ الدولة اللبنانيّة مفلسة، ثمّ يؤكّد على أن المال الذي سيعطى من الصندوق المذكور مشروط بإصلاحات وإجراءات ستكون الحكومة اللبنانيّة ملزمة بالقيام يها وأشار أيضًا إلى أن حزب الله الممثّل بالحكومة يدخل الأموال إلى لبنان بطريقة ملتوية، وأكمل بأن كلّ شيء متوقّف على رؤية حزب الله وسلوكياته.

في كلا الوجهين، يؤكّد الأميركيون وعلى لسان شينكر وعلى طريقة جون بيركنز، أن المشتهى إفلاس لبنان لوضع اليد عليه، من قبل صندوق النقد الدوليّ. الحرب الأميركيّة على لبنان منذ 17 تشرين الأول 2019 تحوي هذا الهدف بإطلاقيّته، وعندما نقول بإطلاقيته نعني بأنهم يذهبون به بعيدًا جدًّا. لا يعني الوجهان نهاية الحرب، بل تخفيض منسوبها أمنيًّا وتحويلها من الشارع إلى السياق الاقتصادي والماليّ وحصرها به، وتلك الحرب هي الأصعب والأدقّ. أحد رجال الأعمال الكبار وهو عارف بقوّة باستراتيجيّة الرؤية الأميركيّة، أعلن لصديق له ومنذ 17 تشرين الأوّل بأن تلك الحرب هي الأشرس والأدقّ لأنها ستقود لبنان إلى مكان مختلف عما هو عليه وبأشخاص أيضًا مختلفين، وأردف وقال: أنتم تحاربون شبحًا موجودًا في حيوبكم ومصارفكم ومؤسساتكم وإداراتكم ودولتكم، أنتم تحاربون عصب الحياة، والأميركيون، وبحسب قراءته آنذاك المكمّلة لقراءة الدبلوماسيين الأميركيين المستشرقين في منزل فؤاد بطرس، قد ضاقوا ذرعًا من أنظمة الفساد القائمة في بعض البلدان ومنها لبنان. بمعنى أنّ الأميركيين متجهون في حربهم على لبنان إلى تغيير النظام السياسيّ والماليّ والاقتصاديّ، وهذا ما قصده شينكر بإشارته إلى مجموعة الإصلاحات.

تشير مصادر سياسيّة أخرى بأنّه كان على الدكتور دياب أن يتريّث قليلاً قبل كتابة الرسالة وإرسالها، فقبل أن تصل بصورة رسميّة إلى الIMF أتى الجواب من شينكر مفخّخًا وملتبسًا ومتشدّدًا. وتكمل المصادر قائلة بأنّه كان على الدكتور دياب ومن بعد مؤتمر حاكم مضرف لبنان رياض سلامة وتأكيد ديفيد شينكر بأنّه قد تعاون معهم في مسألة حسابات حزب الله وسواها، وهذا تثبيت يورّط رياضًا بأمر خطير جدًّا وهو أنه سلّم الإدارة الأميركيّة لائحة كشوفات بأسماء المودعين وأرقام إيداعاتهم، أي انّه كشف المودعين المنتمين إلى الحزب وسواه أمام الأميركيين الذين باتوا يعرفون واقعنا المصرفيّ، وحتمًا تمّ ذلك بغضّ طرف شخصيّة أساسيّة في لبنان وتورّط أخرى. الأميركيون الآن قابضون على السريّة المصرفيّة في لبنان. وبتحويل الحرب من أمنية وعسكريّة كادت أن تنفجر إلى موقعها الماليّ والاجتماعيّ أستعادوا موقع القوّة بعض الشيء بواسطة المصارف ورئيسها التابع لهم الداعين إلى بيع قطاعات الدولة وممتلكاتها على الطريقة البيركنزيّة والرافضين للخطة الاقتصاديّة التي أقرّتها الحكومة اللبنانيّة.

أمام ذلك توصي المصادر المتابعة الحكومة اللبنانيّة بالتالي:
1-التوجّه مباشرة إلى المصارف اللبنانيّة وحشرها في الزاوية، بالطلب منها وتحت طائلة الملاحقة القانونيّة إعادة الأموال من الخارج إلى الداخل. فلو سلنا جدلاً بأنّ أموال المودعين قد تمّ إشغالها ومنحت كدين للدولة فأين هي الفائدة؟ المعلومات الواردة بأن أرباح الفوائد قد هربت إلى الخارج.

2-الطلب أيضًا من المصارف تأمين الفوائد التي جنوها من بيع سندات الخزينة يوروبوندز وإلاّ فإنهم سيتعرّضون للملاحقة القانونيّة ووضع الإشارات على الممتلكات الأصول والجذور، وصولاً إلى الاعتقال.

3-العمل وبسرعة قصوى على تخفيض سعر صرف الدولار، لكوننا مسلّمين بأنّ ارتفاعه سياسيّ أو اعتداء سياسيّ على الأمن الماليّ والاقتصادي في لبنان. وبمقدار ما إنّ الصرافين مسؤولون إلاّ أنّ المحميات السياسيّة والتغطيات المصرفيّة مسؤولة بدورها عن هذا الاعتداء السياسيّ على الدولة والمواطنين، ولكي تحمي الدولة نفسها ومواطنيها عليها فضح السياسيين والمصارف المتورطة في رفع سعر صرف الدولار وتعقبهم قانونيًّا وجزائيًّا بلا رحمة وعدم خوف من إمكانية الصدام فالأمن وبرأي المصادر ممسوك من كل الاتجاهات وليس من خوف على زوال لبنان بحرب أهلية يهولون بها وهم عاجزون عنها في المدى المنظور أو غير المنظور.

4-تكليف حاكم مصرف لبنان بالمعل سريعًا على كشف الأموال المهرّبة إلى الخارج ليصار بعد ذلك إلى إنهاء خدماته ومحاكمته من بعدما كشف أسماء المودعين أمام الإدارة الأميركيّة. كلام دايفيد شينكر يدنيه من المحاكمة وللمرة الثانية قام بكشف فعلته وبطريقة متعمّدة. ليقول للبنانيين بأن رياضًا رجلنا.

5-ملاحقة التجار الكبار الملتحفين بغطاء سياسيّ سميك بسبب احتكارهم للكثير من البضائع والعمل على رفع أسعار البضائع بصورة متوحّشة. آن الوقت لوزير الاقتصاد راوول نعمة الذي يعمل بأن يكثّف الجهود وينطلق إلى إلاق المؤساات المخالفة للقانون وختمها بالشمع الأحمر وإحالة أصحابها على السجون. يا سيدي الوزير إنهم لا يرعوون ويرتدعون إلاّ بقوّة القانون فاطبق عليهم ونفّذ القانون فبل انفجار ثورة الجياع، فهم بدورهم متآمرون على الدولة والحكومة ولبنان.

في الختام على الحكومة اللبنانيّة حزم أمرها، وإلاّ فإن الغلبة قد تكون للشبح الذي يفترسنا بالغلاء يومًا بعد يوم، ومع الافتراس سينهار لبنان، وهذا بالنسبة لنا من تاسع المستحيلات…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.