الانتخابات العراقيَّة في ميزان المصالح الاستراتيجية الأميركية

موقع قناة الميادين-

وسام إسماعيل:

لا يجب القول إن وصول الديمقراطيين إلى رئاسة الولايات المتحدة شكَّل تغييراً لمشروع الدولة العميقة في العراق، لكن التغيير حصل على مستوى الأسلوب المعتمد.

لم تكن الأزمة السياسيّة العراقية والاحتجاجات الشعبية وليدة ظروف طارئة أو نتيجة فشل مستجد لمنظومة الحكم في إدارة العملية السياسية في هذا البلد، بل إن جذور هذه الأزمة تعود إلى العام 2005، يوم صوّت ما عُرف بمجلس الحكم الانتقالي في العراق على الدستور المؤقت أو ما عُرف بدستور “بريمر”، والذي ما زال يشكّل النواة الأساسية للدستور الحالي القائم على أساس التقاسم المذهبي والعرقي للسلطة، والمغيّب لأسس الوحدة المجتمعية والوطنية، بما أسّس لحالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني التي يصعب معالجتها.

وبالعودة إلى مرحلة ما بعد الاحتلال، فإنَّ إقامة الدولة الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان وكتابة دستور تقدمي كانت أهم ما سوّقت له الإدارة الأميركية لرؤيتها المستقبلية للدولة العراقية.

وانطلاقاً مما أشار إليه أهم الباحثين والمفكرين في هذا المجال، فإنَّ الدّولة هي السلطة المركزية صاحبة السيادة والقادرة على فرض طاعتها على كل الأفراد. وفي تحليل الواقع الذي أرساه الدور الأميركي في عملية بناء الدولة في العراق، يظهر جلياً ذلك التناقض، إذ شرّعت الولايات المتحدة عملية تحويل الهوية الطائفية إلى شكل مهيمن ومميز لواقع التوازنات السياسية في هذا البلد.

إذاً، وعلى النقيض مما تسعى إليه القوى الكبرى والدول الحديثة على مستوى تكريس المواطنة والانتماء إلى الدولة، وفق رؤية العلاقة المباشرة بينها وبين أفرادها، سعت إدارة الرئيس جورج بوش الابن، عبر دستور بريمر، لتثبيت الانتماء الطائفي والعرقي كوسيط منظم لعلاقة المواطن العراقي بدولته. وبذلك، يتحول الوجود الطارئ والمرحلي الأميركي في هذا البلد إلى ضرورة حيوية للحفاظ على السلم الأهلي وعلى وحدة أراضيه ومنع وقوع حرب أهلية بين أطيافه.

لكنَّ الحدث المفصلي الذي زعزع المخطط الأميركي بالبقاء الدائم في العراق كان يوم انطلق الشعب العراقي في مقاومة الاحتلال وتكبيده خسائر مادية وبشرية كبيرة، ما ساعد على وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، انطلاقاً من برنامج انتخابي يمثل الانسحاب العسكري من العراق أهم لبناته.

ولأن السياسة الأميركية قد تتغير جذرياً بتغير رأس الهرم في الدولة، أمكن القول إنَّ تنفيذ الرئيس السابق باراك أوباما لوعوده بالانسحاب حدّ من قدرة الدولة العميقة على إدارة مشروعها في العراق، فتمكَّنت الاتجاهات العراقية المناوئة للولايات المتحدة من تثبيت وجودها في الساحة السياسية، وصولاً إلى نجاحها في فرض مشروعها السياسي على المشهد العراقي.

بالطبع، لا يجب القول إن وصول الديمقراطيين إلى رئاسة الولايات المتحدة شكَّل تغييراً لمشروع الدولة العميقة في العراق، لكن التغيير حصل على مستوى الأسلوب المعتمد، إذ إنَّ الولايات المتحدة بعد انسحابها من العراق عكفت على دراسة المتغيرات الدولية والإقليمية التي اعترضت سياساتها، واتخذت قراراً بضرورة تعديل الاستراتيجيات المعتمدة وتغييرها بما يتوافق مع الأهمية الاستراتيجية للعراق، ومع متطلبات الأمن القومي الأميركي.

لقد جاهدت الإدارات الأميركية في محاولة تأكيد شرعية الوجود العسكري في العراق، مستندة إلى اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة في العام 2008، وسوّقت لضرورة بقاء هذه القوات للمساعدة في ضمان عدم عودة “داعش” وتعزيز التعاون في مختلف المجالات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية وحقوق الإنسان. وإن كانت جولات الحوار الاستراتيجي التي بدأت في حزيران/يونيو 2020 لم تتطرَّق إلى الخوف الأميركي من المشروع الذي شكلته الجماعات المسلحة الممانعة، إضافةً إلى الحشد الشعبي، فإن الإدارة الأميركية لم تتوانَ عن الإعلان عن ضرورة مواجهة الفصائل الحليفة للجمهورية الإسلامية، إذ حاولت الاستفادة من الأوضاع الداخلية للتصويب على فصائل المقاومة العراقية والحشد الشعبي، بغية شيطنتها وتحميلها مسؤولية ما آل إليه العراق بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إذاً، يمكن التأكيد أن العقل الأميركي ما زال يعتبر أنَّ فوائد البقاء في هذا البلد تتجاوز الأضرار والمخاطر المحتملة، بدليل أن الرئيس الأميركي جون بايدن، وعلى الرغم من إعلان الاتفاق مع حكومة الكاظمي على الانسحاب النهائي من العراق، أعلن نيته إبقاء 2500 جندي في العراق، بحجة مساعدة القوى الأمنية العراقية.

ولأنَّ الوجود العسكري الأميركي هناك أصبح هزيلاً وتحوّل إلى عبء على الحكومة الأميركية، إذ إنَّ الفصائل المقاومة استطاعت أن تطوّق النفوذ الأميركي العسكري والسياسي، حاولت الإدارة الأميركيَّة أن تستعيد زمام المبادرة عبر التصويب على تمدد الفساد في إدارات الدولة وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ووجّهت أيضاً وسائل إعلامها نحو واقع حقوق الإنسان، إذ ترافق ذلك مع محاولة ربط فصائل المقاومة بهذه الأوضاع.

إنَّ العودة إلى التحليلات الأميركية لأسباب البقاء، تؤكّد أنَّ محاربة تنظيم “داعش” لم تكن أبداً أولوية لهذا البقاء، وإنما كانت بمثابة حجة يمكن من خلالها مواجهة ما يسمونه بـ”النفوذ الإيراني” الَّذي يشكل الحلقة الأهم في تشكيل محور الممانعة.

وإذا ربطنا هذا التحليل بما أثارته وسائل الإعلام الأميركية وأدواتها العراقية من ملفات تتعلَّق بالفساد وربطها بالفصائل المقاومة الوازنة على المستوى الشعبي والسياسي، يصبح مفهوماً ذلك التوتر السائد في الساحة العراقية، والذي قد تعمل الولايات المتحدة على تطويره، عبر دعم الاحتجاجات والاضطرابات الشعبية، إلى ما يشبه حرباً أهلية، من أجل تحييد الفصائل من المشهد السياسي.

في المقابل، وفي محاولة لتطويق أثر هذه الاحتجاجات التي أودت بحياة أكثر من 560 شخصاً في السلم الأهلي، ولمنع تدهور الأوضاع الأمنية، اتّخذ رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي قراراً بإجراء انتخابات مبكرة، وتعهَّد بحمايتها وضمان حصولها بجوّ من الديمقراطية بعيداً عن أيّ شكل من أشكال العنف، وطلب مساعدة الأمم المتحدة التي وافق فيها مجلس الأمن على تشكيل فريق معزز وقوي ومرئي لمراقبتها، ثم حاول على المستوى الداخلي العمل على تقديم ضمانات لعدم استخدام السلاح في الانتخابات وتحييده، إضافةً إلى تجريم استخدام الخطاب الطائفي والعنصري، من أجل تعزيز ثقة الشارع العراقي بأهمية الانتخابات وضرورة المشاركة فيها.

لكنَّ المفارقة التي يفترض الإشارة إليها في هذا السّياق أنَّ رؤية رئيس الحكومة العراقية تنطلق من محاولة تجنيب البلد حرباً أهلية وإيجاد حل للأزمة العراقية وفق أسس الدستور العراقي وموازين القوى الداخلية القائمة، مقابل رؤية أميركية تنظر إلى دولة العراق ودستورها والاستحقاقات الدستورية على أنَّها مجرد وسائل مساعدة في عملية إرساء المشروع الأميركي المتجدد والمتحول في المنطقة، إذ تعتبر أنَّ العراق ساحة للصراع الإقليمي والدولي، وترى في الانتخابات العراقية المبكرة أداة تتطلَّب تقييماً عملياً لتقرير مدى مساهمتها الفعالة في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل بإقصاء الفصائل المقاومة عن المشهد السياسي، بما يشكل إضعافاً للجمهورية الإسلامية في المنطقة.

ولأن الحملة التي أرادتها الولايات المتحدة فتيلاً لغضب شعبي في وجه الفصائل السياسية المناهضة لوجودها فشلت في تحقيق أهدافها، من حيث نزع الغطاء الشعبي وعزل فصائل المقاومة عن بيئتها، وجدت الولايات المتحدة أن الانتخابات المزمع إجراؤها لن تؤدي إلى تقليص ما تعتبره “نفوذاً إيرانياً”، بل ستساعد في تعزيز الإرادة السياسية والشعبية، لنزع الشرعية عن الوجود الأميركي وتسريع عملية إخراجه من البلد.

وعليه، لن يتوانى الجانب الأميركي عن محاولة تعطيل الاستحقاق الدستوري عبر الضغوط الدولية التي قد تتمثل باتهام الحشد والفصائل باغتيال بعض الناشطين أو إدراج بعض الأسماء والفصائل في لوائح الإرهاب الأميركية لإضعاف شعبيتها، أو قد يعمد إلى تفجير الوضع أمنياً عبر بعض التفجيرات والعمليات الإرهابية التي قد ينفّذها “داعش” أو أحد مسمّياته الأخرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.