الحصانة بين التشريع والواقع

موقع العهد الإخباري-

هاني ابراهيم:

إن الحصانة لغويًا تأتي من فعل حَصُنَ، أي منع، وجمعها حصون وهو كل موضع لا يمكن الوصول الى ما في داخله.
لذا مثلت الحصانة أو ما يعرف باللغة الأجنبية immunity، الحالة التي يتمتع بها أي شخص فتمنع التعرض إليه، أو ملاحقته وبالتالي محاسبته وذلك لاعتبارات عديدة ولأسباب ينظمها القانون الدولي في حالة رؤساء الدول والممثلين الدبلوماسيين والسفراء والقناصل وغيرهم، كما وتلك التي ينظمها القانون المحلي فيما يتعلق ببعض المواقع السياسية والمهن الحرة والمراكز الادارية في الادارات والمؤسسات العامة.

لا يوجد تعريف واحد أو مفهوم موحد للحصانات، وذلك وبالنظر لكونها متعددة الوجوه على مستوى الأشخاص والمواقع والمهن فتراها غير واضحة، ما يجعل أمر ضمها في بوتقة واحدة بعنوان واحد وآليات مشتركة أمرًا في غاية التعقيد.

حيث انها من الصعوبة بمكان أن نجمع حصانة النائب بما يمثل ودوره في هذا الاطار من جهة وحصانة رئيس الدولة والوزراء وما يمثلون ودورهم من جهة أخرى، هذا فضلًا عن بعض المهن الحرة التي تتمتع أيضًا بنوع من الحصانة وفق القانون الخاص بهم والذي ينظم لهم مهنتهم من جهة ثالثة وذلك كله وفق القانون المحلي، أما التمثيل الديبلوماسي فله قواعده الخاصة التي تحكمها القوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية.

وعليه، واستنادًا لما ذكر أعلاه، فإن الحصانة هي تلك القواعد المانعة، او التي تضيق وتحد من الاختصاص القضائي أو الولاية القضائية للدولة، ما يعني بشكل عام وأشمل، حماية هؤلاء الأشخاص المعينين وفقًا للقانون من الملاحقة القضائية عن الأفعال التي يرتكبونها في معرض قيامهم بأعمالهم أو بسببها. لكن المفارقة هنا هي أن هذه الحصانة بالعادة وجدت من أجل المصلحة العامة، وليس كما هو مفهوم لدى العامة أنها من أجل مصالح شخصية وهذا أمر مغلوط يجب توضيحه.

ما هو مصدر هذه الحصانات وما هي أنواعها؟

هناك ثلاثة مصادر أساسية للحصانة فإما أن تكون مستمدة من نصوص الدستور، أو من أحكام القانون الدولي، أو من القوانين الخاصة في البلد. و في هذه الحالة، يوجد انواع متعددة منها الدستورية النيابية المهنية وليس آخرها الوظيفية.

أولًا: الحصانة الدستورية لرئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء وللوزراء.
باعتباره رأس الهرم في النظام الجمهوري، فإن رئيس الجمهورية حامي الدستور الساهر على تطبيقه وتنفيذه، وبالتالي، من الطبيعي وهو في الموقع المذكور ان يكون مصانًا ومحصنًا من أي كيدية سياسية أو غير سياسية ليتمكن من القيام بدوره الوطني الجامع.

انطلاقًا من كل ذلك، جاءت المادة 60 من الدستور اللبناني لتضع ضوابط وأصولًا وآليات لمساءلة رئيس البلاد، فنصت على ما حرفيته “أن لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرق الدستور أو حال الخيانة العظمى”. ولكن ماذا بخصوص الجرائم العادية؟ تتابع نص المادة بأنها خاضعة للقوانين العامة.
من حيث المبدأ فإن التبعات على رئيس الجمهورية واضحة ولكن ما هي الآلية لذلك؟
اعتبرت المادة 60 أن كل الجرائم المذكورة لا يمكن توجيه الاتهام بخصوصها لرئيس الجمهورية إلا من خلال مجلس النواب وبغالبية الثلثين من مجموع أعضائه أي الـ128 نائبًا، وأن تكون محاكمته في حال توافر الشروط تلك أمام مجلس خاص سمي المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

ما يعني أن القضاء العادي بشقيه الجزائي والمدني وغيره لا يحق له ملاحقة رئيس الجمهورية باستناء قاضٍ واحد تعينه المحكمة العليا لتمثيل دور الادعاء العام.

يبقى أن نعرف التفسير الواضح والصريح لكل من مصطلحي “الخيانة العظمى” و”خرق الدستور”.

ماذا عن رئيس مجلس الوزراء والوزراء؟ تجيب المادة سبعون من الدستور اللبناني أنه يتم توجيه الاتهام الى رئيس الوزراء والوزراء فيما خص الخيانة العظمى أو باخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم بغالبية الثلثين من مجموع الاعضاء وليس الحاضرين في الجلسة ما يعني ذات الغالبية المطلوبة لمحاكمة الرئيس.

أين تجري هذه المحاكمة؟ بحسب المادة 71 من الدستور، تجري المحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وتستمر حتى ولو استقال بعد ذلك رئيس الحكومة أو الوزير بحسب نص المادة 72.

لكن ماذا عن الجرائم العادية لرئيس الوزراء والوزراء؟
نصت الفقرة 2 من المادة 66 من الدستور على ما حرفيته أن يتولّى الوزراء إدارة مصالح الدولة. ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين، كلّ بما يتعلّق بالأمور العائدة إلى إدارتهم وبما خصّت به، وتتابع الفقرة 3 من المادة نفسها أنه يتحمّل الوزراء إجمالاً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملّون إفرادًا تبعة أفعالهم الشخصية. ماذا يعني ذلك؟ ما عدا جريمة الخيانة العظمى وآلياتاها وتبعاتها، فإن ما خص الجرائم العادية التي يمكن أن يتهم بها، فإن الأصول المطبقة هي أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات اللبناني، على أساس مساواته مع سائر الأشخاص الخاضعين لقوانين الدولة اللبنانية.

ثانيًا: الحصانة النيابية

لأعضاء المجالس النيابية في اغلب دول العالم سيما لبنان حصانة يتمتعون بها وهي في الوقع منقسمة الى قسمين نهائية ومؤقتة.
الحصانة النهائية: وهي التي تعطي النائب الحصانة التامة والشاملة والنهائية وبالتالي تمنع عنه المساءلة والمحاسبة ولكن حول ماذا؟ الجواب: حول آرائه وافكاره التي يبديها طيلة مدة نيابته وحتى بعد ذلك أي بعد انقضاء مدة ولايته كنائب يمثل الأمة اللبنانية بحسب التعبير الدستوري.
وهذه الحصانة توفر للنائب الحرية في التعبير والكلام والمناقشة دون خوف أو وجل من مقاضاته أي ملاحقة جزائية. لكن، ماذا عن الجرائم التي يرتكبها ولا تمت الى عمله كمشرع وممثل للناس؟ فإنه يسأل عنها حتى وإن مارس هذا الدور بصفته النيابية.
أما القسم الآخر من الحصانة تلك فتسمى مبدئية أو مؤقتة: فهي لا تعفي النائب من الملاحقة القضائية لكنها توقف تلك الملاحقة الى حين الاستحصال على اذن من الجهة المعنية وهنا يكون مجلس النواب هو الجهة المعنية بطبيعة الحال، إلا أن هناك استثناء لا يمكن تجاوزه وبصرف النظر عن الحصانة من جهة وعن الاذن بالملاحقة من جهة اخرى، هو حالة الجرم المشهود.

وأثناء دراسة المجلس لطلب الإذن لا يحق له أن يبحث في موضوع الدعوى وعناصرها ومدى ثبوتها أو بمعنى آخر وكتعبير قانوني بحت لا يحق له النظر بالأساس، بل هو من صلاحية القضاء، ويقف دوره عند حد معرفة الدافع للدعوى، وهل هو بهدف سياسي للضغط على النائب لاتخاذ مواقف تناسب جهة دون أخرى أم غير ذلك. وبناء عليه يصدر الإذن بالملاحقة أو العكس.
من الممكن أن يصادف أن يكون أحد النواب ملاحقا قضائيا قبل انتخابه للنيابة، هذه الملاحقة تستمر بعد بدء ممارسة دوره كنائب وليس له أن يحتج بالحصانة.

ثالثًا: الحصانة الوظيفية

تتضمن المادة 61 من نظام الموظفين الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959، خمسة بنود تحدد الآلية القانونية والقضائية لملاحقة الموظف العام في حال ارتكابه جرائم ناشئة ناجمة عن الوظيفة، لكي تكون هذه الاجراءت موضع ثقة لجهة ملاحقة الموظف بعيدًا عن اي محاولة لحمايته أو حماية ارتكاباته.

البند الثاني من المادة 61 يشير الى ضرورة أخذ موافقة الادارة المعنية قبل الملاحقة القضائية، وهو ما يمكن دون ريب أن نسميها حصانة مقنعة، وهذا ما يشكل تجاوزًا قانونيًا. فالحصانة الوظيفية وجدت لتكون موضع أمان وحماية للموظف منعًا من التشفي به وعدم جعله رهينة للتهديد والابتزاز من قبل المواطنين، أما في حال ارتكاب جرم ما، فتصبح موافقة الادارة موضعا للشك والشبهة، بل تعتبر تغطية في أوقات معينة الحصانة الوظيفية تختلف باختلاف الموظف ما بين الادارات العامة والقضاء والأسلاك العسكرية وغيرها من الوظائف التي تقوم على أساس عدم امكانية مساءلة أو محاسبة اي موظف إلا بعد أخذ الإذن وهذا بحد ذاته يعتبر حصانة.

رابعًا: الحصانة المهنية والنقابية

تتمتع بعض نقابات المهن الحرة بنوع من الحماية للمنتسبين إليها في محاولة لحمايتهم أثناء أدائهم لعملهم، ومنعًا من التعرض لهم والتأثير عليهم في معرض ممارستهم لعملهم ومن ضمن هذه المهن: مهنة المحاماة. فرض قانون تنظيم مهنة المحاماة على المحامي التقيّد بمبادئ معينة أثناء ممارسته مهنته، مثل عدم الإتصال بالشهود، عدم قبول أي دعوى لخصم موكله ، بالإضافة إلى عدم قبول أي دعوى ضد زميل له من دون إذن النقابة. وعليه، منح القانون اللبناني بالقانون رقم 8/70 الصادر بتاريخ 11 اذار 1970 المحامي حصانات وضمانات، لاعتبارات عديدة منها أن حق الدفاع مقدس، ذلك، بالاستناد للمادة 74 من قانون تنظيم مهنة المحاماة، لا يترتب على المحامي أي مسؤولية جراء الذم أو القدح أو التحقير أثناء المرافعات الخطية أو الشفوية التي تصدر عنه، ما لم يتجاوز حدود الدفاع.
وبحسب المادة 75 من القانون نفسه لا يجوز توقيف المحامي احتياطيًا في دعوى قدح أو ذم أو تحقير تقام عليه بسبب أقوال أو كتابات صدرت عنه في أثناء ممارسته مهنته، كما أنه لا يجوز أن يشترك برؤية الدعوى أحد قضاة المحكمة التي وقع فيها الحادث وكل جرم يقع على محامٍ في أثناء ممارسته مهنته أو بسبب هذه الممارسة، يعرّض الفاعل والمشترك والمتدخل والمحرّض للعقوبة نفسها التي يعاقب عليها عند وقوع الجرم على قاض. فضلًا عن مجموعة من الموانع ذكرت في المواد 76 و 77و 87 من قانون تنظيم المهنة تتعلق باليات التفتيش ووضع الأختام وغيرها من الأمور.

أما المادة 79 فتنص على أنه لا يجوز استجواب المحامي عن جريمة منسوبة إليه، باستثناء حالة الجرم المشهود، إلا بعد ابلاغ الأمر لنقيب المحامين الذي يحق له حضور الاستجواب بنفسه أو بواسطة من ينتدبه من أعضاء مجلس النقابة. ولا يجوز ملاحقة المحامي لفعل نشأ عن ممارسة المهنة أو بمعرضها إلا بقرار من مجلس النقابة الذي يأذن بالملاحقة، ويقدر ما إذا كان الفعل ناشئًا عن المهنة أو بمعرضها.
طبعًا إن من يقرأ أدبيات هذه الحصانة يراها منطقية لجهة حصرها في إطار معين فضلًا عن الاجراءات التي يفترض اتباعها لمساءلة المهني سواء المحام أم الطبيب أم المهندس وغيرها من المهن باختلاف قوانينها التنظيمية.

خلاصة

يعتبر البعض إما نتيجة عدم معرفة وإما نتيجة ممارسة أصحاب الحصانات من أن الحصانة هي رخصة لمن تعطى له بموجب القوانين المختلفة ليكون في وضع يميزه عن غيره من الناس ما يجعل المواطن العادي في موقع مختلف.
هذا الاعتقاد غير دقيق لأن أساس وجود الحصانات ليس مخالفة القانون، بل من المفترض أن يسلم المتمتع بالحصانة مسلك الشخص الذي يوحي بالثقة والالتزام و الاحترام لأن الحصانة أعطيت له لحمايته في مواجهة كيدية السلطة وليس في مواجهة شعبه الذي يمثل. وبالتالي هناك لغط كبير عندما نقول إسقاط الحصانات، والأصح هو رفع أو اسقاط الاجراءات الآيلة الى المحاكمة فقط دون الحصانة التي تبقى كعنوان وتسقط ما يحول دون ملاحقة المدان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.