العالم نحو تعددية نقدية: الدولار لم يعد قدراً

موقع قناة الميادين-

زياد ناصر الدين:

تزامن توسّع احتلال الدولار اقتصاديات الدول واستخدام نظام “سويفت” لمآرب سياسية مع صعود الصين الاقتصادي وانفلاش تجارتها عالمياً وطموحها المتجدد بإعادة تفعيل “طريق الحرير” عبر مبادرة “الحزام والطريق”.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، برزت هيمنة الولايات المتحدة على العالم في النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية. وخلال 80 عاماً تلت ذلك، كان الدولار هو العامل المحرّك للواقع العالمي التجاري الاقتصادي الاجتماعي بشكل رئيسي. وقد تم ذلك عبر مراحل أساسية ثبّتت مكانة العملة الخضراء.

1- بداية الهيمنة: مؤتمر بريتون وودز
عام 1944، عُقد مؤتمر النقد الدولي من 1 إلى 22 تموز/يوليو في غابات بريتون في نيوهامبشر. وقد حضره ممثلون عن 44 دولة وضعوا خططاً من أجل استقرار النظام العالمي المالي والتشجيع على نمو التجارة في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية التي كانت متجهة نحو الحسم لمصلحة الولايات المتحدة.

وبحسب الاتفاق الذي توصل إليه مؤتمر “بريتون وودز”، تقرر إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واعتبارهما مؤسستين اقتصاديتين لديهما تابع دولي يتم من خلالهما تنظيم العلاقات التجارية وفرض الدولار كمرجع رئيسي لتحديد سعر صرف العملات الأخرى. وبناء عليه، تحوّل الدولار من عملة محليّة إلى عملة عالميّة، إذ شكّلت هذه المرحلة النقطة الفاصلة في الاقتصاد العالمي الجديد.

عام 1945، كانت الولايات المتحدة تمتلك 75% من احتياطي الذهب العالمي. يومها، قامت بتثبيت سعر المعدن الأصفر في مقابل الدولار (35 دولاراً للأونصة)، فجعلته العملة الأساسية لاحتياطات الذهب في العالم.

2- صدمة نيكسون واتفاق البترودولار
عام 1971، قرّر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك الارتباط بين الدولار والذهب، والتوجّه إلى الاعتماد على القوّة السياسية للدولار، وطبع العملة من دون تغطية، بل بالاعتماد على أكبر اتفاق اقتصادي في التاريخ، وهو ما عُرف باتفاق البترودولار، إذ أدركت واشنطن أنّ النفط هو سلاح اقتصادي يفوق بأهميته وتأثيره أضخم الأسلحة العسكرية في العالم.

وبذلك، أحكمت نظرية البترودولار سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمي، وأصبح بيع النفط في العالم عبر منظمة الدول المصدّرة للبترول (أوبك) يتم بواسطة العملة الأميركية. وقد تزامن ذلك مع الثورة الصناعية الكبرى التي اعتمدت بشكل أساسي على النفط ومشتقاته.

3- تكرير الدولار
عُرفت الفترة الممتدة من العام 1980 وحتى العام 1990 بالمرحلة الذكية. وقد تم خلالها استثمار العوائد المالية للدول النفطية في المصارف الأميركية من خلال:

– الفوائد على السندات.

– الاتفاق على الاستهلاك في البنى التحتية الأميركية والمعدات العسكرية.

4- التوظيف السياسي للدولار
قامت الولايات المتحدة بتوظيف فائض عوائد إيرادات النفط والغاز من الدولار المستثمر لديها، إذ أقرضت الدول النامية في مقابل فوائد أدت إلى مراكمة ديون هذه الدول لإحكام السيطرة السياسية عليها.

5- الصراع الجيو-اقتصادي والعقوبات
بما أن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، فقد شكّلت الأزمات السياسية والعسكرية سبباً لتقلص هيمنة الدولار التي قُدّرت بـ40% عن السابق في آسيا وأميركا الجنوبية ودول أفريقيا، وساهمت في إنشاء منظمات اقتصاديّة جديدة، أهمها شانغهاي و”بريكس”.

ونجد راهناً أنّ العديد من الدول المهمة قرر الانضمام إلى هذه المنظمات كأعضاء فاعلين. وخلال شهر حزيران/يونيو، سيتم بت الطلبات المقدّمة من السعودية والإمارات وتركيا وإيران والكويت ودول أخرى.

6- عقوبات الدولار ونظام “سويفت”
إنّ نظام “سويفت” هو شريان مالي عالمي يسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود. كلمة “SWIFT” هي اختصار لـ”جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف”. وقد أُنشئت عام 1973، وتتوزّع مراكزها بين بلجيكا وبرلين ونيويورك، ويعد المركز الأخير هو الأبرز والمتحكم في تحويلات الدولار.

هذا النظام الذي يربط آلاف المصارف في أكثر من 200 دولة، ويتحكّم في التجارة العالمية، خرج من واقعه التقني باتجاه الاستغلال السياسي، إذ بات اليد الضاربة للعقوبات المالية التي تُفرض على شركات ودول لا تتوافق مع السياسات الغربية، وخصوصاً الأميركية، ما أجبر الدول والجهات المعرّضة لهذه العقوبات على البحث عن بدائل لنظام “سويفت”.

7- الدولار من الهيمنة إلى الاحتلال
كما ذكرنا آنفاً، كانت بدايات النظام العالمي المنبثق بعد الحرب العالمية الثانية مع فرض واشنطن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، ثم بسط سيطرته بالكامل، قبل أن يتحوّل إلى محتلّ لاقتصاديات الدول عبر دولرتها والتحكّم في كل مفاصلها الاقتصادية، وهو ما مكّن الأميركيين من فرض شروطهم عليها.

8- الصراع مع الصين
تزامن توسّع احتلال الدولار اقتصاديات الدول واستخدام نظام “سويفت” لمآرب سياسية مع صعود الصين الاقتصادي وانفلاش تجارتها عالمياً وطموحها المتجدد بإعادة تفعيل “طريق الحرير” عبر مبادرة “الحزام والطريق”، حتى باتت تستخدم اليوان في تعاملاتها التجارية مع دول عدّة، ما أخاف الولايات المتحدة وجعلها تدخل في صراعات متعددة مع الدولة الآسيوية، اتخذت أبعاداً متعددة، تتمثل بالآتي:

– صراع على الموانئ البحرية.

– صراع لإيقاف مبادرة “الحزام والطريق”.

– صراع مرتبط بـ”السويفت” وإنشاء نظام مالي رديف يكسر الأحادية العالمية الاقتصادية.

– صراع أميركي مع دول قارة آسيا، وخصوصاً الصين، على مصادر الطاقة والغاز والمعادن النفيسة.

– صراع المعادلات الجديدة بين رابح – رابح ورابح – خاسر.

– صراع التكتلات الاقتصادية الجديدة.

– صراع العملات الرقمية.

كان لافتاً تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة العمل أوروبياً على التخلي تدريجياً عن الدولار والتقليل من الاعتماد عليه خارج الحدود الإقليمية بهدف إبعاد الصراع الأميركي الصيني عن أوروبا. وقد اجتمع ماكرون مع نظيره الصيني شي جين بينغ لتعزيز العلاقات بين الطرفين. وتعدّ فرنسا الدولة الغربيّة الأولى التي تعلن سعيها للتخلي عن الدولار.

وكما أنتجت الحرب العالمية الثانية نظاماً عالمياً جديداً في حينها، بات من الممكن اليوم أن ينبثق من الصراعات الروسية الغربية والصراعات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة وحلفائهم نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب. وكما دعت الولايات المتحدة، كدولة مقتدرة، إلى مؤتمرها في قرية نائية عام 1945، أصبح وارداً أن نشهد دعوة الصين إلى مؤتمر عالمي جديد يكون لليوان فيه هيمنة على الأسواق.

بات من البديهي القول إنّ العالم يتغير، والدولار لم يعد قدراً للنظام العالمي، والتحولات الكبرى في توجهات الشعوب والدول وخياراتها الاقتصادية والسياسية ستؤثّر حتماً في سطوة أميركا وعملتها، والمؤكّد أنّ نظاماً عالميّاً جديداً يتشكّل، إلا أنّ معالمه لم تتضح بعد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.