القوة العسكرية الإسرائيلية وغياب الأهداف الإستراتيجية

موقع قناة الميادين-

أيمن الرفاتي:

على الرغم من امتلاك الاحتلال الإسرائيلي القوة العسكرية والتفوق الكبير أمام جميع أعدائه من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، فإنه لم يستطع تحقيق هدفه الإستراتيجي بإقامة دولة كبرى.

 

بعد 74 عاماً على احتلال فلسطين، لا تزال مشكلات عميقة تواجه المحتلين الذين وضعوا أهدافاً إستراتيجية لم يستطيعوا الوصول إليها حتى الوقت الحالي، على الرغم من امتلاكهم كلّ أشكال الدعم وأنواع القوة لتحقيقها، وباتت قوتهم عقيمة، فلا هدوء، ولا استقرار، ولا بيئة إقليمية تتقبلهم، ولا شرعية دولية كاملة، ولا شعب فلسطيني توقف عن المطالبة بحقه.

 

وفي دراسة أبرز المقومات والأهداف الإستراتيجية لكيان الاحتلال، نجد أنّ الكثير من مواطن الخلل والعجز التي تعتريه تفاقمت وباتت مهددة لوجوده، وخصوصاً في الأبعاد السياسية والاجتماعية والديموغرافية، على الرغم من امتلاكه قوة عسكرية واقتصادية.

 

إنّ “إقامة دولة كبرى ذات هوية يهودية نقية وقوة إقليمية عظمى مهيمنة في منطقة الشرق الأوسط” تعد الهدف القومي الأول بالنسبة إلى كيان الاحتلال منذ نشأته. ومع حلول العقد الثامن لهذا الكيان، فإنّ هذا الهدف لم يتحقق بدرجة واضحة، فـ”دولة” الاحتلال ليست “دولة” كبرى، ولم تستطع ترسيم حدودها، بل إنّها، ومنذ عام 2000، تنحصر جغرافياً، ولم تستطع تحصيل أراضٍ جديدة ضمن رؤيتها في إقامة “إسرائيل الكبرى”، ولم تتخلّص من المشكلة الديموغرافية المتمثّلة بوجود أكثر من 4 ملايين فلسطيني في فلسطين التاريخية، كما أنّها محاطة بقوى معادية لها تنمو وتكبر قوتها يوماً بعد يوم. وعلى الرغم من حركة التطبيع التي حدثت في الآونة الأخيرة، لا يمكن القول إنّ “إسرائيل” وصلت إلى مرحلة “الهيمنة” على منطقة الشرق الأوسط.

 

والأمر كذلك في “احتفاظ دولة الاحتلال بتفوّق كمّي ونوعي في المنطقة”، الذي يعدّ أبرز الأهداف العسكرية لـ”دولة” الاحتلال، التي بنت نظريتها الأمنية، قديماً وحديثاً، على التفوّق العسكري كمّاً ونوعاً في المجالين التقليدي وغير التقليدي، وتفعيل سياسة ردع ببعديها النفسي والمادي في المنطقة، ومنع ظهور بوادر شنّ أعدائها عمليات عسكرية عليها، والحفاظ على درجة تأهب عالية جداً تجعلها قادرة على تدمير أي هجمات وإحباطها قبل انتقالها إلى داخل “دولة” الاحتلال.

 

وعلى الرغم من امتلاك “إسرائيل” القوة العسكرية والتفوق الكبير أمام جميع أعدائها من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، فإنها لم تستطع تحقيق هدفها الإستراتيجي بإقامة “دولة كبرى” والاستفادة من القوة العسكرية، وباتت عاجزة عن تحقيق معادلات الردع الوقائي والاستباقي، بل باتت قوتها العسكرية عاجزة أمام المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، اللتين بادرتا سابقاً إلى توجيه ضربات كبيرة إليها في حرب تموز عام 2006، و”سيف القدس” 2021، عندما نفذتا عمليات كبيرة، كأسرٍ جنودٍ صهاينة على حدود لبنان، وقصف مدينة القدس المحتلة من قطاع غزة، حتى بات قادة الاحتلال ومفكروه يفكرون خلال السنوات الأخيرة في كيفية تجاوز المخاطر المتنامية قبل التفكير في تحقيق الأهداف الإستراتيجية.

 

إلى جانب ذلك، كان “استمرار البقاء القومي بدرجة عالية من الصلابة ونقاء الجنس اليهودي، وذلك بزيادة حجم القوة البشرية وتحسين نوعيتها من خلال استكمال هجرة يهود العالم إلى الكيان”، الهدف الإستراتيجي الثالث لكيان الاحتلال، والذي بات اليوم مركز الاختلال فيه، في ظل حالِ انقسام واستقطاب حاد وصل إلى درجةٍ دفعت رئيس جهاز الأمن الداخلي “الشاباك” رونين بار، خلال مؤتمر دراسي أكاديمي في جامعة “رايخمان”، إلى دقّ ناقوس الخطر الوجودي بالقول إنّ التصدع في المجتمع الإسرائيلي يلقي بظلاله على أمن “إسرائيل”، وينطوي على تشجيع لأعدائها، محذراً من خطورة التصدع الداخلي.

 

من ناحية ثانية، لم تستطع “دولة” الاحتلال تقليص الوجود الفلسطيني في فلسطين التاريخية لمصلحة استقدام المهاجرين اليهود، فللمرة الأولى في العام الحالي يتساوى عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية مع عدد اليهود. ويتوقع أن يرتفع عددهم مع نهاية العام إلى 7.1 ملايين فلسطيني. باختصار، هذا الأمر يشير إلى التراجع وعدم القدرة على تحقيق أحد أهمّ الأهداف الإستراتيجية لـ”دولة” الاحتلال.

 

ويتوافق التراجع مع ما قفز إلى السطح عقب الانتخابات الأخيرة التي جرت مطلع الشهر الحالي، وما أظهرته استطلاعات الرأي، بأنّ 30% من الجمهور فكّروا في الهجرة خارج الكيان بعد ظهور نتائج الانتخابات. وكانت أعلى نسبة بين المصوّتين لنتنياهو، إذ قال 50% ممن انتخبوه إنّهم فكروا في الخروج من “إسرائيل” فور ظهور النتائج.

 

وعلى الرغم من سيطرة الاحتلال على الأرض، وإحداثه اختراقات في ملفّ التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، وحفاظه على التفوّق العسكري والتقني والاقتصادي في المنطقة، فإنّ “دولته” لا تزال تعاني مشكلة في مشروعيتها في المنطقة وعلى المستوى الدولي، ولم تستطع أن تنتقل إلى حال الشرعية مثل أيّ دولة عادية، ولا يزال التصويت ضدها في المحافل الدولية قائماً ومتواصلاً، كما أنّها لم تستطع الوصول إلى حال الاستقرار الأمني في ظل تصاعد المقاومة وتناميها في الضفة الغربية والمواجهات العسكرية التي كان آخرها مع قطاع غزة قبل شهرين.

 

لقد انتقلت “دولة” الاحتلال خلال العقود الثلاثة الأخيرة من الحديث عن تحقيق الأهداف الإستراتيجية الكبرى إلى التركيز على الأهداف الآنية الصغرى، المتمثّلة بكيفية التعامل مع المشكلات الطارئة المختلفة ومحاولة مكافحة تكرار وقوعها والقضاء أو السيطرة عليها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.