القوة الناعمة الأميركية وتدهور تأثيرها المتزايد

صحيفة الوطن السورية-

تحسين الحلبي:

في بداية التسعينات انهار الاتحاد السوفييتي كقوة كبرى مع كتلة دوله الاشتراكية المناهضة للإمبريالية الأميركية، وأصبحت الولايات المتحدة أكبر قوة في العالم وكان من الطبيعي بعد هذا التحول الكبير في النظام العالمي الذي طوى صفحة وجود قطبي قوة متناقضين أن تعمل الولايات المتحدة على تفوقها في جميع أشكال القوة لفرض سياساتها والتحكم بقواعد النظام العالمي الجديد الذي ترغب بإدارته لتحقيق مصالحها الإستراتيجية على حساب الشعوب وفي عام 1994 نشر البروفيسور الأميركي آرون فريدبيرغ في مجلة «مركز برينستون الأميركي للدراسات الإستراتيجية» دراسة بعنوان «مستقبل القوة الأميركية» حدد فيها وجود ثلاثة أنواع من القوة:

1- النووية.

2- الأسلحة التقليدية.

3- قوة السوفت باور أي «القوة الناعمة».

وأن ميزان القوة العالمي تحدده قدرة هذه القوى الثلاث عند أي دولة، ورأى أن ميزان القوى بين القوى الكبرى في المجال النووي وفي الأسلحة التقليدية قد يؤشر إلى توازن نسبي حقا، لكن «القوة الناعمة» ستتفوق فيها الولايات المتحدة على الجميع، وبموجب تفوقها في هذا المجال سترجح كفة قوتها على العالم، وتفرض عليه نظامها العالمي وخطابها الإعلامي، وحدد في تعريفه للقوة الناعمة بأنها قوة لا تستخدم القدرة العسكرية للتأثير وتوسيع النفوذ بل تستخدم قوة ما تنتجه أميركا من «منتوجات الثقافة والإعلام والسينما والدعاية التي تؤثر في الجمهور في العالم لكي يتجاوب معها».

وبالمقابل كان عميد كلية كينيدي الأميركية «لإدارة الحكم والعلاقات الدولية في جامعة هارفارد» البروفيسور جوزيف ناي، قد حدد تعريفه للقوة في بحث نشره في مجلة كلية هارفارد لإدارة الأعمال في 8 شباط 2004 تحت عنوان: «فوائد القوة الناعمة» بأن القوة بشكل عام هي القدرة على التأثير في الآخرين لقبول النتائج المطلوبة لمن يستخدمها»، وهذا الشكل من القوة قد يكون صلبا مباشرا، أي عسكريا، أو قدرة اقتصاد، أو قوة ناعمة، تتضمن أوسع مجالات الاستخدام والتنوع، وهي القوة التي تزعم الولايات المتحدة بأنها المتفوقة على الجميع فيها، لكن هذا الزعم لا يصمد أمام حقيقة أن الولايات المتحدة استخدمت منذ بداية التسعينيات، إلى جانب قوتها الناعمة وبشكل غير مسبوق، أكبر قدراتها العسكرية وقدرات الاحتكار الاقتصادي بدءاً من حربها في يوغوسلافيا ثم في حرب الخليج الأولى 1991 ثم بعد ذلك في غزو أفغانستان 2001 وغزو العراق 2003 والمشاركة العسكرية ضد ليبيا عام 2011 وتوجيه الضربات العسكرية للصومال وبداية التدخل العسكري في سورية عام 2014، وهذا يعني أنها تعتمد في إستراتيجيتها على القوة العسكرية المباشرة دون أن تؤدي القوة الناعمة إلى الاستغناء عن القوة الصلبة «هارد باور»، أو التخفيف من استخدامها، وهذا ما يستنتجه البروفيسور ناي حين يكشف في بحثه عن «وجود تناقض مركزي في القوة الصلبة الأميركية فالقوات الأميركية لا يزال لها قواعد في 130 دولة ويزداد التركيز الأميركي على استخدام القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية، في حين تنخفض أكثر فأكثر قدرتها في القوة الناعمة»، وهذا ما يدل عليه لجوءها لكل هذه الحروب منذ بداية عصر القوة الناعمة في التسعينيات حتى الآن، ولذلك يعتقد البروفيسور ناي أن القوة الناعمة الأميركية فشلت في الحصول على تجاوب الجمهور الذي تستهدفه مع سياساتها، بالرغم من وجود هذا الجمهور داخل دول تعد من أقدم الحلفاء للولايات المتحدة، وبرغم كثافة استخدام القوة الناعمة ووسائلها ومنتوجاتها واتساع انتشارها ومشاركة حلفائها في جميع القارات في هذه المهمة.

بالمقابل لا بد من التأكيد على أن ثورة الاتصالات التي ولدت وسائل القوة الناعمة وأرادت الولايات المتحدة استخدامها لأغراضها، تحولت إلى سلاح أيضاً بأيدي الكثيرين من داخل الجمهور الذي تستهدفه أميركا، فقد بدأت أوساط في هذا الجمهور بإنشاء شبكات تواصل إعلامي ومعلوماتي تحمل قواسم مناهضة لما تروجه القوة الناعمة الأميركية، بل تمكن هؤلاء من منافسة أميركا في بعض وسائل القوة الصلبة، مثل صناعة الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة قصيرة المدى في فصائل المقاومة واليمن، واستخدام قرصنة السايبير للرد على الحروب الأميركية والتصدي لأهدافها.

في ظل هذه الدوامة، لم تعد الولايات المتحدة قطب القوى الكبرى الوحيد بعد التسعينيات، بل أصبحت الآن قوة من بين قوى كبرى عديدة تنافسها في قدراتها الاقتصادية والعسكرية، على حين يتصدى لقوتها الناعمة عدد كبير من الدول الصغيرة والإقليمية وتتمكن من إحباط تضليلها ومزاعمها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.