اللعب على “كرامة” أمريكا المهدورة

صحيفة البعث السورية-

علي اليوسف:

لا شك أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي وصفته كلّ دول العالم بـ”المذل”، قد يكون له تأثير معاكس يقلب كل المعادلات والنظريات التي تراهن عليها الدول المناوئة للسياسة الأمريكية. ووفقاً لهذا الافتراض، من غير المستبعد أن تظهر واشنطن قوتها في أماكن أخرى، وأن الفوضى التي تركتها واشنطن خلفها في أفغانستان ستكون لها انعكاسات خطيرة على معظم دول آسيا الوسطى، أي أنها ستشغل روسيا والصين بالمتغيرات الناشئة الجديدة، وستتفرغ هي للملف الإيراني.

حتى الآن توحي كل الإشارات بأن إدارة بايدن ستتفرغ للملف الإيراني، ولو في المدى القريب، لأن الزيارة التي قام بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني نفتالي بينيت مؤخراً لا تخلو من وضع خطط ضد إيران تحت مسمّى “إعادة كرامة الولايات المتحدة المهدورة في أفغانستان”، حيث تتفق جميع التوقعات على أن واشنطن ربما تتخلّى عن فكرة التفاوض، وهو الأمر الذي قرأته طهران جيداً حين أعلنت قبل أيام أنها بصدد رفع قدراتها الدفاعية لمواجهة التهديدات المحتملة.

كانت أهم المخاوف لدى إيران على مدار العشرين عاماً الماضية أن تصبح أفغانستان قاعدة جوية للولايات المتحدة لمهاجمة إيران، لكن المشهد انقلب رأساً على عقب في لعبة خلط الأوراق التي تقامر عليها الولايات المتحدة، ومنها إرباك إيران ودفعها لتغيير إستراتيجيتها في التعامل مع الملف الأفغاني. وهذا التغيير، بحسب التفكير الأمريكي، سيشغل إيران ولو مؤقتاً عن الاستمرار في تطوير قدراتها الدفاعية، وبالتالي سيكون فرصة لتستعيد أمريكا بالتنسيق مع الكيان الصهيوني إعادة ترتيب الأوراق الخاصة للضغط على طهران، أو إعداد مفاجأة تتجاوز قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، وربما تكون هذه المفاجأة من حركة “طالبان” نفسها!.

اليوم باتت أفغانستان في قبضة “طالبان”، وهناك احتمال بفرار الآلاف من الأفغان إلى إيران، الأمر الذي قد يزيد الضغط على طهران، وخاصة في ظل وجود أكثر من 3 ملايين لاجئ أفغاني في الوقت الحالي، إضافة إلى الوضع الأمني غير المستقر والذي يعدّ من أهم التحديات أمام إيران إذا ما اتجهت الأوضاع إلى منحنيات أمنية خطيرة من بينها ترعرع الحركات الإرهابية في أفغانستان، خاصةً وأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي وقعت اتفاقية رسمية مع حركة “طالبان”، وعند انسحابها تركت السلاح والعتاد العسكري في أيدي “طالبان”.

وبالتوازي مع ذلك، استمر بايدن في سياسة ترامب تجاه إيران من خلال استخدام “الضغط الأقصى”، ما أدى إلى تصعيد الموقف مرة أخرى والدخول في لعبة لن تستطيع أمريكا الفوز فيها. أي أن مصير الاتفاق النووي غير مؤكد، حيث انتهت الجولة السادسة من الدبلوماسية المكوكية في فيينا يوم 20 حزيران الماضي، ولم يتمّ تحديد موعد للجولة السابعة حتى الآن. ويبدو التزام الرئيس بايدن بالانضمام إلى الاتفاقية مهتزاً أكثر من أي وقت مضى.

وفي مقابلة في 25 حزيران الماضي، هدّد وزير الخارجية الأمريكي بلينيكن بالانسحاب من المحادثات كلياً. وقال إنه إذا استمرت إيران في تطوير أجهزة الطرد المركزي، فسيصعب على الولايات المتحدة العودة إلى الصفقة الأصلية. ولدى سؤاله عما إذا كانت الولايات المتحدة قد تنسحب من المفاوضات، أو متى ستنسحب، قال: “لا يمكنني تحديد موعد لها، لكنه يقترب”.

هذه النغمة عادت إلى الواجهة الجمعة الماضية خلال لقاء بايدن بـ رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت في البيت الأبيض، حيث قال: “الولايات المتحدة ستكون منفتحة على خيارات أخرى في حال فشلت الجهود الدبلوماسية في التوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، وسط استمرار الأخيرة في تحقيق تقدم على صعيد تخصيب اليورانيوم وتكنولوجيا إنتاج الأسلحة النووية”.

وفي 21 آب الفائت نشرت صحيفة “نيويورك بوست” الأمريكية مقالاً قالت فيه إنّه إذا كان هناك شيء واحد يجب أن نتعلّمه عن جو بايدن الآن، فهو أنه وبمجرد أن تخطر بباله فكرة سيئة، لا يوجد من يقنعه بإسقاطها أو الاستماع إلى آراء مخالفة.

ميل بايدن العنيد إلى إصلاح مفهوم ما، دون التشكيك فيه بشكل كامل، يقطع شوطاً طويلاً نحو توضيح سبب تفاؤله بشأن طالبان، ولم تُفلح التقارير الاستخباراتية بردعه عن إكمال اندفاعه الجنوني للخروج من أفغانستان، دون التأكد أولاً من أن جميع الأمريكيين والحلفاء الأفغان وكنز المعدات العسكرية الأمريكية لم يُتركوا وراءهم. إذن هل يمكن لأي شخص الآن الوثوق بوعوده بشأن صفقة نووية مع إيران؟.

من المفترض -كما تقول الصحيفة – أن انتخاب بايدن منح البيت الأبيض والإدارة الأمريكية كفاءة وتعاطفاً وصدقاً أكثر من الإدارة التي سبقته، ومع ذلك أثبتت أفغانستان أننا حصلنا على عكس ذلك، حتى أن قسماً من وسائل الإعلام الليبرالية بدأ يعترف بذلك. ربما يكون مستشاروه محقّين في اعتقادهم أن الجمهور سينسى قريباً أمر أفغانستان، لكن أهواء الرئيس قد تقوده إلى ارتكاب خطأ فادح أكبر مع إيران.

تولى بايدن منصبه عازماً على إعادة الاتفاق النووي مع إيران الذي ألغاه الرئيس دونالد ترامب عام 2018، والسؤال الآن هو ما إذا كان يريد قلب الطاولة، واستخدام الخيارات المفتوحة التي وعد بها رئيس وزراء الكيان الصهيوني. وبقدر سوء ترك أفغانستان التي سقطت بسرعة في يد “طالبان”، إذا اتبع بايدن غرائزه ولجأ إلى الخيارات المفتوحة، قد تكون العواقب على الشرق الأوسط مفتوحة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.