المحافظون في القرن 21: دبلوماسية السيطرة والتحكم

موقع الخنادق-

زينب عقيل:

ثمة فوضى عارمة لدى محاولة فهم السياسة الخارجية الأمريكية، فطرفي الصراع على السلطة المحافظون والديموقراطيون يعتمدون استراتيجية الانتقاء في القضايا، يمكن الاعتماد في قضية معينة على المبدأ الليبرالي وفي قضية أخرى على المبدأ المحافظ، وفي أخرى التشكيك، وهكذا.

المحافظون، بالطبع، ليسوا جميعهم متفقين. “لا يوجد نموذج محافظ”، يقول المؤرخ راسل كيرك، ولكن هناك طريقة محافِظة “للنظر إلى النظام الاجتماعي المدني”، يمتد إلى مجال السياسة الخارجية. ثمة مبادئ يصفونها بأنها “محافظة” ولكنها تبدو مشتركة لدى الأحزاب الأمريكية، تشكّل إطارًا لتقييم التحديات والفرص، الهدف العام هو الحفاظ على قوة الولايات المتحدة حتى يتمكن الأمريكيون من حماية مصالحهم الاقتصادية والسياسية، والاستمرار في تحقيق الهيمنة على النظام العالمي.

المبادئ التي تقوم عليها “سياسة خارجية محافظة”

خلال هذه الفترة من الصراعات في العالم، يرى المحافظون أنفسهم “في وضع أفضل للتعامل مع قوى التغيير لأن افتراضاتهم ومبادئهم تتماشى بشكل أفضل مع الطريقة التي يعمل بها العالم بالفعل. إنهم لا يفترضون أن التقارب السياسي العالمي أمر حتمي – أو حتى ممكن”. تقول ناديا شادلو، وهي نائبة مستشار سابقة لاستراتيجيات الأمن القومي خلال إدارة ترامب. إذ يجب على الولايات المتحدة التعامل مع العالم لسبب بسيط، هو أن الأمريكيين يتأثرون شخصيًا بالأحداث الجيوسياسية كما حصل من تداعيات للأزمة الأوكرانية، وغيرها من الأشياء التي تحدث في جميع أنحاء العالم، والأولوية هي لسلامة ورفاهية الشعب الأمريكي. وتقدّم شادلو أربعة مبادئ على أساسها تقوم السياسة الخارجية للمحافظين: – أولوية الحرية، والسيادة الوطنية، والقوة العسكرية، والتقدير الواقعي للطبيعة التنافسية المتأصلة في المشهد الدولي. سنعرضها بقراءة نقدية وليس حرفيًا كما روّجت لها شادلو.

-أولًا: أولوية الحرية

الإيمان بالحرية يكمن في صميم السياسة الخارجية الأمريكية لأنها بحسب ترويج المحافظين والليبراليين على حدّ سواء، تؤدي إلى التشكيك بالأنظمة. ومن ثمّ يحلّ مبدأ التبعية من خلال خضوع هذه الدول لما أسمته شادلو “الحلول العالمية أو فوق وطنية”، مع التأكيد على الجانب “الأهم” للحرية: وهي الحرية الاقتصادية. حسب ما أوردت شادلو. وادّعت أن “الإدارة الأمريكية المحافظة تفضّل الحلول الوطنية قبل التدخل”.

إلا أن الواقع أنها تدفع بالدول التي تتمتع باستقرار ولو نسبي إلى فوضى عارمة ومن ثمّ تقدم لها التبعية على طبق من دولارات صندوق النقد والبنك الدولي، أو من خلال الغزو العسكري كما جرى في أفغانستان والعراق في إدارة جورج بوش الابن المحافظ، ولا تختلف بذلك أبدًا عن الديموقراطيين.

-ثانيًا: السيادة الوطنية

بحسب شادلو، إ”نّ الديمقراطية بدون سيادة وطنية مستحيلة. وأن الدول الفردية وليس التابعة هي أفضل طريقة لتوفير النظام”، ومن ثمّ تشير إلى أن “المساواة بين الدول مكرسة في الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة”، إلا أن ثمة مبدأ يعتمده الأمريكيون بإداراتهم الجمهورية والديموقراطية: “الاستثنائية الأمريكية”، وهي النظرية القائلة بأن الولايات المتحدة تتفرّد بطبيعتها عن الأمم الأخرى، ويُنظر إليها على أنها “متفوقة على الدول الأخرى ولديها مهمة فريدة لتغيير العالم”.

-ثالثًا: فهم المشهد الدولي التنافسي

كما أشارت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2017، فإن “الاستمرارية المركزية في التاريخ هي التنافس على السلطة”. وبالتالي فإن فهم المشهد الدولي التنافسي هو أمر أساسي للمحافظين. تنتقد شادلو تراجع الأمميين الليبراليين عن هذه المركزية “في حين لا تزال هناك أنظمة سياسية واقتصادية متنافسة ووجهات نظر متباينة حول كيفية تنظيم الدول لحياة مواطنيها”.

-رابعًا: القوة العسكرية

من الضروري بحسب رؤية المحافظين وجود جيش أمريكي قوي للتغلب على هذه الأنظمة المتنافسة، والدفاع عن المصالح الأمريكية، واستعراض القوة. “ليس لأن الولايات المتحدة تسعى إلى شن حرب، ولكن لأن جيشًا قويًا ضروري للحفاظ على السلام. والقوة العسكرية هي أيضًا أساس ضروري لأشكال أخرى من النفوذ وفن الحكم”. تقول شادلو. وهذا هو الأمر الوحيد الذي يتفق فيه المحافظون والديموقراطيون.

 

استراتيجية الأمن القومي المحافظة

ستُجَسَّد استراتيجية الأمن القومي المحافظة المبادئ المحددة أعلاه لبناء هيكل للسياسة على أساس أربعة خطوط من الحكم: الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية.

-أولًا: الاستراتيجية الدبلوماسية

بحسب المنظرين المحافظين، يجب أن يعمل أسلوب الحكم الدبلوماسي المحافظ على تحفيز التحالفات السياسية حول العالم، من خلال العمل مع الفاعلين المحليين الذي يقومون بأدوار لإنشاء الأسس للاصطفافات لصالح الولايات المتحدة،

يمكن ملاحظة اللغة الملتبسة في عرض السياسة الديبلوماسية المحافظة لدى إقحام شادلو مصطلحات مثل “هذا لا يعني القيادة بقوة عسكرية أو فرض القيم الأمريكية”، خاصة أن التاريخ الأمريكي حافل في نشر قيمه بالقوة، وقد بدأ المحافظون القرن الواحد والعشرين بها في العراق وأفغانستان، ولكن الآن يبدو أن المحافظين يتجهون إلى المزيد من العمليات السرية لإسقاط الأنظمة، فكلما زاد عدد الأصدقاء والحلفاء للولايات المتحدة، سيقلل ذلك من الموارد والخيارات المتاحة للمنافسين، وبالتالي هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. ولنجاح ذلك يرى المحافظون أن ذلك “سيتطلّب سياسات خاصة في كل منطقة بدلًا من السياسات العالمية ذات الحجم الواحد”. وفي الاستراتيجية أيضًا “ضرورة اعتماد الحلفاء والشركاء على أنفسهم في تخصيص مواردهم والدفاع عن أنفسهم وليس الاعتماد فقط على الولايات المتحدة، مع العلم أن الإدارات الأمريكية كافة لا تتحالف مع دولة إلا وتنهبها بكافة الأشكال”.

ثانيًا: الاستراتيجية الاقتصادية

للحفاظ على مكانتها في طليعة الابتكار، لا يتطلب من الولايات المتحدة الحفاظ على نظام السوق الحرة في الداخل فحسب، بل يتطلب أيضًا هيكلة السياسة الاقتصادية الدولية لتنمية المزايا الأمريكية. ينتقد المحافظون انتقال قواعد التصنيع إلى خارج أراضي الولايات المتحدة خلال الثلاثين عامًا الماضية. و”يرون أن الولايات المتحدة اليوم تفتقر إلى الشركات والقوى العاملة في قطاعات التصنيع الرئيسية. يتطلب تصحيح هذا التزامًا بزيادة عدد طلاب العلوم والهندسة في الولايات المتحدة، وتعزيز الهجرة القائمة على المهارات، وتوفير الموارد الكافية للبحث والتطوير. ويعتبرون أن على واشنطن أيضًا منع الخصوم من جني فوائد الابتكار الأمريكي. وألا تدعم شركات التكنولوجيا الأمريكية مراكز الأبحاث في الصين لتطوير الذكاء الاصطناعي والقدرات الأخرى. كما يسعون لحظر الشركات الصينية الخاضعة للعقوبات وتلك المرتبطة بالجيش والاستخبارات في بكين من أسواق الأسهم والديون الغربية. وألا يمول المستثمرون الأمريكيون خصوم بلادهم – ولا حتى من خلال أسواق الدول الثالثة”.

هناك أيضًا إجماع عبر الطيف السياسي على أنه يجب إعادة هيكلة سلاسل التوريد لتجنب الاعتماد الخطير على منافسين مثل الصين. تعلّق شادلو أنه يجب ألا يعتمد العالم بأسره على مصانع الرقائق الدقيقة المركزة في تايوان، مع العلم أن الولايات المتحدة تمنع العالم بأسره من الوصول إلى تصنيع هذه التقنية التي تعتبر بمثابة السلاح الاقتصادي الأهم في هذا العصر للولايات المتحدة. وقد استطاع ترامب من إخضاع هواوي من خلال منع شركة TSMC التيوانية والتي تسيطر عليها الإدارة الأمريكية من تصدير هذه الرقائق لها.

ويبدو أن المحافظين متفقون مع الديموقراطيين في هذه المسألة، خاصة بعدما وقع بايدن قانون الرقائق والعلوم الذي وصفته مجلة فورين بوليسي بأنه رسالة للصينيين بأننا لن نسلّم مقعد قيادة العالم لأحد.

إلى ذلك يزايد المحافظون إذ يحذرون من عبور الخط في السياسة الصناعية، الأمر الذي لن يقوض الكفاءة فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى السعي وراء الريع من قبل مجموعات المصالح. هذه النقاشات ليست جديدة، فخلال الثمانينيات، تدخلت إدارة ريغان لحماية صناعة هذه الرقائق من المنافسة مع اليابان. سعى ريغان إلى تحقيق التوازن بين الأسواق والأمن القومي. والمثل الأعلى هو حكومة اتحادية دون تركيز السلطة. من الصعب تحقيق توازن، ولكن النهج المحافظ للسياسة الصناعية يسترشد بالمبادئ التالية:

أولاً، يجب تمكين الأسواق التنافسية والفعالة محليًاً. تحتاج الولايات المتحدة إلى خفض اللوائح للسماح للبنية التحتية والمناجم الجديدة والمنشآت الصناعية بالمضي قدمًا بشكل أسرع. قد يستغرق الأمر أكثر من عقد لبدء المشاريع المعقدة وإكمالها.

ثانيًا، تحتاج الوكالات الحكومية إلى بيانات ومعلومات أفضل حول القطاعات الرئيسية، خاصة تلك المعقدة مثل الرقائق الإلكترونية التي تعتبر سلعة نادرة وأغلى وإيراداتها أعلى من النفط والذهب.

ثالثًا، في حين أن الحكومة الفيدرالية يمكن أن توفر تمركز استراتيجي، إلا أنه على مستوى الولاية والمستوى المحلي سيتم بناء مرافق جديدة.

رابعًا، تعلو اعتبارات الأمن القومي على الكفاءة الاقتصادية. ويحتاج صانعو السياسة في الولايات المتحدة إلى تحديد القطاعات الحاسمة للأمن العسكري والاقتصادي والحفاظ على القدرة المحلية أو بنائها، حتى لو كان ذلك يتطلب تعريفات أو لوائح توريد محلية أو تدخلات أخرى في السوق.

ثالثًا: الاستراتيجية العسكرية

يستند أسلوب الحكم العسكري المحافظ إلى تقليد طويل يتمثل في دعم ميزانيات دفاعية يمكن التنبؤ بها، وإلى الأنشطة والقدرات المطلوبة للحفاظ على موازين القوى الإقليمية. ميزانيات الدفاع التي يمكن التنبؤ بها مهمة بشكل خاص مع ارتفاع التضخم. تعتبر الزيادة في عام 2023 البالغة 4 في المائة تقريبًا أقل من التضخم، مما يُترجم إلى خفض كبير في الميزانية. وهذا بدوره يعني استعدادًا أقل ومساحة أقل لشراء المعدات.

يرى المحافظون أن أولويات البيت الأبيض بشأن تغير المناخ – بما في ذلك إجبار الخدمات العسكرية على تطوير مخططات يسمونها “طوباوية” للعمل باستخدام الطاقة المتجددة – تصرف الانتباه عن الأولويات العسكرية وفرض المقايضات في البرامج ذات المهام الحرجة مثل شراء المعدات والتدريب. ويصرون على أن دور الجيش لا يتمثل في محاربة تغير المناخ بل في “ردع الأعداء وهزيمتهم”.

إلى ذلك، يتمثل أحد المكونات المركزية لاستراتيجية الولايات المتحدة التي تسعى إلى الحفاظ على التوازن الإقليمي، في الانتشار المتقدم للجيش الأمريكي. توفر القوات المنتشرة للولايات المتحدة القدرة على التصرف بسرعة إذا لزم الأمر والحفاظ على قوة ردع موثوقة. ويرون أنه من الأصعب بكثير – وربما من المستحيل في بعض الحالات – الدخول مرة أخرى إلى المسرح بمجرد رحيل الجيش الأمريكي. إذ تستغرق لوجستيات نقل القوة القتالية الكبيرة شهورًا، وتحديات منع الوصول / رفض المنطقة التي تواجه القوات الأمريكية في جميع أنحاء العالم تعني أن إعادة الدخول إلى المسرح بمجرد اندلاع الأزمة أصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى. وهو ما يحصل الآن في سوريا والعراق.

أكثر النقاشات صخبًاً بين المحافظين تتعلق بالوجود العسكري للولايات المتحدة في الخارج وتحديدًا في المعسكرات. يدعو من يسمونهم “الانعزاليون”، إلى تقليص النفقات هناك. جادل ممثلو هذه المجموعة بأن الوجود المتقدم للجيش الأمريكي يمثل رؤية للولايات المتحدة “مخترعة” لفرض قيم تقدمية “حتى أقاصي الأرض”. منطقهم هو أن الولايات المتحدة ممتدة أكثر من اللازم في العالم وأن الوجود الأمريكي في الخارج هو شكل من أشكال “الغطرسة الثقافية”. ثمة جدال بين المحافظين في هذه المسألة، إذ يعتبر بعض المحافظين أن “هذه النظرة للعلاقات الدولية معيبة للغاية”. لاعتبار أن الأحداث في جميع أنحاء العالم، ليست مجرد رد فعل على الولايات المتحدة. مثل تصميم الصين على التوسع عالمياً وإزاحة الولايات المتحدة ليس رد فعل لواشنطن ولكنه وظيفة من أهداف بكين الإستراتيجية. وكذلك ما يعتبرونه تطلعات إيران الإقليمية، والعملية العسكرية الروسية على أوكرانيا بهدف ما يسمونه “التوسع الامبريالي”.

رابعًا: الاستراتيجية التكنولوجية

يعتمد أسلوب الحكم المحافظ في مجال التكنولوجيا على الاعتراف بأن التكنولوجيا هي مفتاح المنافسة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين. ستشكل التكنولوجيا المجتمعات والاقتصادات والجيوش في المستقبل. وبالطبع يرى المحافظون أنه يجب أن تحتفظ الولايات المتحدة بمزاياها التنافسية عبر المجالات الأساسية للمنافسة مع الصين: الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، والأنظمة المستقلة، وتقنيات الطاقة الجديدة (مثل الاندماج النووي)، والمجال الحرج للفضاء.

وبحسب الرؤية الاستراتيجية، يحتاج المحافظون إلى دعم إلغاء القيود، وتبسيط التصاريح، وتحسين تعليم العلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الهجرة القائمة على المهارات، وزيادة الاستثمارات في البحث. بالإضافة إلى تدابير دفاعية لحماية الشركات الأمريكية من التعدي من قبل المنافسين. وهذا يشمل الجهود المبذولة لمنع جميع الشركات والمؤسسات البحثية الأمريكية – وليس فقط تلك العاملة في صناعة أشباه الموصِلات – من التعامل مع الكيانات التي تساعد في تسليح الجيش الصيني.

وأخيرًا

فيما يتعلّق بالمبادئ الاستراتيجية، ليس ثمة اختلاف يذكر بين المحافظين والديموقراطيين، يبدو أن الاختلافات تكمن في الأولويات والفهم التفصيلي لمصالح الولايات المتحدة وقيمها، وكيفية فرضها على العالم في ظل تراجع العولمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.