لم يرتق الإشكال الذي افتعله خالد ضاهر أمام ساحة عبد الحميد كرامي في طرابلس، إلى مستوى الإشكالية التي من شأنها أن تعرقل أولى ثمار الحوار بين «حزب الله» و «تيار المستقبل»: إزالة الصور والشعارات الحزبية عن كامل الأراضي اللبنانية. فالقطار يسير، مهما حاول المتضررون وضع العصي في الدواليب.
حتى أنّ «النائب ـــ الصاروخ» تراجع عما اقترفه لسانه واعتذر عنه، بعدما تبين له أنّ حنجرته تطلق نشازاً لن تجد منشدين له. هكذا ستستمر حملة «التنظيف» في الشوارع العامة والأزقة من وجوه «قبضيات السياسة» ولافتات «التأليه» لإنجازاتهم، لتزيل آخر صرعات «الديكور الحزبي».
ولهذا أيضاً لم يجد نهاد المشنوق نفسه في موقع الحاجة للخروج عن صمته للدفاع عما تفعله «جرّافاته» في عاصمة الشمال، ما دام محمياً بغطاء سياسي يؤمنه سعد الحريري وتمام سلام وحتى فؤاد السنيورة المتهم بالسباحة خارج «التيار الحواري»، كما يؤكد وزير الداخلية، ما يقيه قنص الخارجين عن «الطاعة الزرقاء»، ويبقيه في «منطقة الأمان».
ومع ذلك، فإن المشنوق كان مدركاً لحساسية الخطوة حين ستطرق أبواب المدينة الشمالية. ولهذا مثلاً، حاول التمهيد لها من خلال التشاور مع مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار ورئيس «هيئة العلماء المسلمين» الشيخ سالم الرافعي لإزالة شعار «طرابلس قلعة المسلمين» واستبداله بآية «وادخلوها بسلام آمنين».
إلا أنّ ما حصل لم يمنعه من الدعوة إلى نزع الرايات السوداء حتى لو حملت «الشهادة» لكنها تمثل بنظره، علم «داعش» الذي نُحر تحته عسكريون لبنانيون، ولهذا فهي فقدت قيمتها الروحية وشوّهت المعاني النبيلة التي تحملها.
بهذا، تصبح المسألة تفصيلاً بسيطاً في رزمة التحديات الأمنية التي تختصر جدول أعمال وزير الداخلية، لا سيما إذا جرت مقارنتها بالإنجاز الذي جرى تحقيقه في سجن رومية، أو حتى في الخطة الأمنية التي جرى تنفيذها في طرابلس، ويفترض أن تستكمل خلال الساعات الثماني والأربعين المقبلة في البقاع، لتعود من بعدها إلى بيروت.
هنا، لا ينكر المشنوق أنّ أي عملية عسكرية كبيرة يمكن أن تترك بعض الندوب والآثار غير المحسوبة بدقة، حتى على أداء الأجهزة الأمنية، لا سيما حين تستشعر الأخيرة بخطر داهم أو حين يكون دم ضباطها وعسكرييها ساخناً. والمقصود بهذه الآثار والندوب، حملة التوقيفات الكبيرة التي تقوم بها الأجهزة، والتي قد تكون في بعض الأحيان عشوائية نظراً للتدفق الهائل للمعلومات عن مشاريع انتحاريين وسيارات مفخخة. «وبهذا تكون تصرفاً مفهوماً، ولكن غير مقبول».
ولكن في موازاة ذلك، يبدي وزير الداخلية ارتياحه للتنسيق المعلوماتي شبه اليومي في «الكبيرة والصغيرة» مع قائد الجيش العماد جان قهوحي وللثقة التي يكنها «رجل الصنائع» لـ«جنرال اليرزة»، حيث قطعت العلاقة شوطاً كبيراً بعدما جرى تصحيح شوائب التواصل التي لطالما اعترت الخط الرابط بين الجيش وقوى الأمن الداخلي، حيث كان قهوجي أول مهنئي المشنوق بإنجاز سجن رومية.
حتى الآن، مر أكثر من 25 يوماً على اقتحام «طابق الإسلاميين» في المبنى «ب»، مع أنه كان قد جرى تحضيرها عتاداً وعديداً منذ أشهر، في انتظار تحديد «ساعة الصفر»، غير أنّ خطف العسكريين دفع بها إلى التأجيل. وحين طرحت على الاجتماع الأمني المصغر قبل نحو شهرين، جرى التحفظ عليها من جانب وزيري العدل والصحة.. إلى أن وقع تفجير جبل محسن.
حينها، تجمعت «داتا» الاتصالات على طاولة وزارة الداخلية، وفيها ما يؤكد الترابط بين الانتحاريين واتصالات مصدرها سجن روميه، فصدر القرار بعدما أبلغ المشنوق الحريري بموعد الاقتحام، وأطلع رئيس الحكومة على تفاصليه، ثم أكمل كل واجبات التنسيق مع قيادة الجيش.
يذكر أن أعمال ترميم المبنى «ب» انطلقت في أول شباط الماضي، حيث يفترض انتظار مئة يوم لاستلام المبنى وإعادة الإسلاميين إليه.
بالنتيجة، لا تزال الأولوية في المبنى الأثري في الصنائع للوضع الأمني، مع أنّ المشنوق لم يهمل شؤوناً أخرى لا تقل أهمية: توسيع ملاك الأمن الداخلي، مكننة دوائر الأحوال الشخصية، قانون السير، الباسبور البيومتري، تنظيم اللوحات الإعلانية، هويات اللاجئين الفلسطينيين.
باستثناء بعض الخروق، فإنّ خطة طرابلس أثبتت نجاحها، وقد استبقها وزير الداخلية بمروحة لقاءات سياسية «وقائية» شملت أكثر من 24 شخصية شمالية لضمان حماية الخطة، فيما يفترض أن يكون البقاع هو الوجهة التالية، ومن بعده بيروت والضاحية مع أنه سبق له أن حيّد عقر دار «حزب الله» من الخطة بحجة ربطها بالاستراتيجية الدفاعية… ولكن يبدو اليوم أنّ ثمة حاجة لإنجاز كبير يبقي شرايين الحوار حيّة ويمده بمقومات الصمود.
لا يمكن الإنكار، أنّه بعد خمس جلسات حوارية بضيافة الرئيس نبيه بري، تبيّن أنّ الحوار هو خيار استراتيجي للفريقين لن يتخليا عنه بسهولة، من دون أن يخرج أي منهما عن سكة ثوابته، مع أنّ «المستقبليين» يقرون بأنّ هذه المسألة غير شعبية ولا تُهضم بسهولة، ولكن في هذه اللحظات المحلية والإقليمية الدقيقة، كان لا بدّ من وضع العناوين الملتهبة جانباً على طريقة ربط النزاع، لحماية البلد من انتقال الحريق الخارجي.
ومع ذلك، يؤكد المشنوق أنّ ثمة حاجة ماسة لتحقيق خطوة كبيرة تثبت مصداقية الحوار مع الخصوم، وتحمي الإنجازات التي تحققت حتى الآن، وإلا فإنّ الدوران في الحلقة المفرغة سيستمر، لا سيما أنّ الملف الرئاسي موضوع راهناً في الثلاجة الإقليمية ولا إمكانية لتسييله لبنانياً.