الوساطة الإيرانية.. ألف سبب للشك ولكن!

صحيفة الوطن السورية-

د. بسام أبو عبد الله:

جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق قبل أيام، معلنة بشكل واضح أن هدفها الأساسي هو القيام بوساطة بين دمشق وأنقرة، من خلال مقاربة جديدة، تقوم على قواعد سياسية، ودبلوماسية للحل بعيداً عن لغة التهديدات، والتصعيد التي شهدتها المرحلة الماضية بسبب النيات التركية بشن عملية عسكرية جديدة باتجاه مدينتي منبج وتل رفعت، بهدف إقامة ما يسميها الأتراك منطقة آمنة، بعمق 30 كم بحسب زعمهم، وإبعاد خطر نشوء كوريدور يربط المناطق المسيطر عليها من ميليشيات «قسد» في شمال سورية.

بالطبع فإن قراءة سريعة للمشهد تشي بأن ثمة اتفاقاً تم خلال لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في قمة عشق آباد في تركمانستان، على قيام طهران بهذه الوساطة، تبعها زيارة لعبد اللهيان إلى أنقرة استمرت أياماً عدة، على غير عادة وزراء الخارجية الذين غالباً ما تكون زياراتهم سريعة وقصيرة، ما يؤشر إلى أن لقاءات عبد اللهيان كانت واسعة، وشملت مؤسسات الدولة التركية، السياسية والأمنية بهدف تكوين رؤية للمبادرة الإيرانية، حيث كان عبد اللهيان واضحاً حينما قال في دمشق: «إن القيادات في تركيا باتت تفضل المقاربة السياسية والدبلوماسية للحل»، وحسب معلوماتنا التي استقيناها من طهران وأنقرة فإن عبد اللهيان أبلغ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسالة مضمونها معارضة طهران الشديدة لأي عملية عسكرية تركية، وبأنها لن تسمح بتغيير المعادلات في الشمال السوري، وستعيد دعم حليفها السوري بكل الإمكانات بما فيها الحضور العسكري المباشر، وهي الرسالة نفسها التي تلقاها أردوغان من موسكو، وحسب هذه المعلومات فإن أردوغان أبلغ عبد اللهيان بأنه مقتنع بعدم إمكانية الاستمرار بالتعاطي مع دمشق بهذه الطريقة، منطلقاً من أن المقاربة السياسية والدبلوماسية هي الأفضل، وخاصة أن العملية العسكرية التركية حسب ما أعلم ستواجه برد قوي من دمشق وحلفائها، وستؤدي إلى عواقب كبيرة على تركيا، التي تعاني أصلاً من واقع اقتصادي وداخلي صعب للغاية.

وإذا كانت عبارة عبد اللهيان في أنقرة من أن طهران تتفهم المخاوف الأمنية التركية قد أثارت بعض الحساسية لدى السوريين، فلا بد من فهمها ضمن إطار دور الوساطة الذي تعمل عليه طهران ليس أكثر، وبهدف الوصول إلى قواسم مشتركة تنزع الفتيل أولاً.

دمشق لم تغلق على عادتها أي بوابات للحل، وخاصة عندما تكون من خلال حلفائها، فقد رحبت بالوساطة الإيرانية انطلاقاً من ثقتها بالحليف الإيراني، وليس استناداً إلى كلام أردوغان الذي تنطبق عليه قاعدة «كلام الليل يمحوه النهار»، إذ لدى دمشق ألف سبب وسبب للشك في النيات التركية، منطلقة من تجربة مرّة، ومن تناقض الأقوال مع الأفعال، وسبق لها أن جربت القنوات الاستخباراتية، لكن دون أي فائدة تذكر، ومع ذلك فإن الاعتقاد السائد هو أن طهران تريد مبدئياً نزع فتيل الانفجار المحتمل من خلال الضغط على «قسد»، وإفهامها أن الحل الوحيد هو تسليم هذه المناطق للجيش العربي السوري منعاً للعملية العسكرية التركية، كما أن موسكو أفهمت قيادات «قسد» الرسالة نفسها بوضوح شديد، لكن المعلومات التي تنشر تفيد بأن قيادات «قسد» تحاول التذاكي على الأطراف كلها، فقد تمّ دخول تعزيزات جديدة للجيش السوري لمناطق الشريط الحدودي، لكنها لم تحسم موقفها بخصوص التسليم الكامل لهذه المناطق، وهو الحل الوحيد الممكن حالياً.

شكوك دمشق لا تأتي فقط من النيات التركية تجاه منبج وتل رفعت فقط، بل من احتلال تركيا لـ8830 كم2 من الأراضي السورية، وقيامها بعمليات تتريك واسعة، وربطها هذه المناطق بمحافظات تركية، واستبدال الهويات السورية بهويات تركية، وفرض نظام تعليمي ومدارس وجامعات، وغيره الكثير، إضافة إلى رعايتها لميليشيات إرهابية تبدأ بتنظيم القاعدة في إدلب، وتنتهي بتنظيمات أبو عمشة في مناطق أخرى في الشمال، مع استخدام سلاحي الماء والطاقة لتدمير أسس الحياة، وإجراء عمليات التغيير الديمغرافي بما يخدم استراتيجياتها المضمرة والمعلنة، وإذا أضفنا لذلك أسباباً كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية سنصل إلى ألف سبب وسبب للشك السوري.

ومع ذلك كله فإن أردوغان ليس مرتاحاً أبداً، ولن يستطيع الاستمرار بهذه السياسات التي أوصلته إلى كارثة اقتصادية مرعبة، وكارثة اللاجئين التي تحولت إلى ورقة سياسية داخلية بينه وبين المعارضة التركية، يتاجرون بها صباح مساء، فتارة يريد إلقاء السوريين فيما يسميه منطقة آمنة، وتارة يقول لهم أنتم إخوة لنا، وتارة يهدد بهم دول الاتحاد الأوروبي، لكنه لا يعرف ماذا يفعل!

وإذا كانت تحركات أردوغان السياسية من أجل هدف واحد، أي الانتخابات الرئاسية في حزيران 2023، ولا هدف آخر لها بما في ذلك تصفير مشاكله مع الإمارات التي اتهم رئيسها محمد بن زايد بالتورط بانقلاب تموز 2016، والسعودية التي هدد ولي عهدها محمد بن سلمان بالويل والثبور وعظائم الأمور بعد قتل جمال خاشقجي، لكنه استقبله استقبال الفاتحين طمعاً بخزائن الرياض علّها تنقذ اقتصاده المتراجع، وكذلك الأمر بالنسبة لـمصر، وكيان الاحتلال الإسرائيلي، فهل سيسري الأمر على علاقاته مع دمشق أيضاً!

يرى الخبراء والمتابعون للشأن التركي أن العلاقة مع دمشق معقدة للغاية، وأن الوساطة الإيرانية قد تنجح في فرض هدنة ليس أكثر، لمنع العملية العسكرية التركية تجاه منبج وتل رفعت، أما التوسع في الوساطة باتجاه رؤية مستقبلية للعلاقات الثنائية، فهذا أمر من المبكر الحديث فيه لأسباب ترتبط بواقع أردوغان الانتخابي، فمن الصعب عليه الآن أن يضحي بأوراقه السورية قبل الانتخابات، فسوف تتهمه المعارضة التركية بأنه هو الذي ورط تركيا بهذه السياسات الحمقاء، ونتائجها الكارثية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وهو ما قد يؤدي إلى خسارته انتخابياً، ولهذا قد يقدم على بعض الخطوات المفيدة له انتخابياً بالتعاون مع موسكو وطهران، وخاصة أن واشنطن وحلف شمال الأطلسي لم يقدما له شيئاً في قمة مدريد سوى مجموعة وعود تنصل منها أصحابها السويديون والفنلنديون بعد أقل من 30 ساعة من التوقيع عليها، وقالوا له إنهم دول تطبق القانون ولن يسلموا أحداً من اللاجئين الكرد إلا بعد قرارات من المحاكم المختصة، الأمر الذي جعل أردوغان يهدد مرة أخرى بوقف انضمام السويد وفنلندا للأطلسي من خلال قرار للبرلمان التركي، وإن كان كثيرون يشككون بإمكان حدوث ذلك بسبب تهديدات واشنطن القوية.

على كل حال هناك وجهتا نظر في هذا الموضوع، وكلتاهما مفيدة للاطلاع:

الأولى: ترى أن أردوغان غير قابل للتغيير والتبديل، وأن ما يقوم به مجرد تكتيكات، هدفها كسب الوقت، وتسجيل نقاط داخلية قبل الانتخابات، التي هي هدفه الأهم، ولهذا قد يحاول الاستفادة من أي مبادرة إيرانية أو روسية إذا كانت تصب مياهها في طاحونته الانتخابية، وفي الوقت نفسه يريد القول للغرب إن أمامه خيارات أخرى إذا لم يتم التجاوب مع مطالب تركيا، وخاصة أن صحيفة الـ«فايننشل تايمز» لخصت الأمر بالقول: «أردوغان حليف مثير للغضب، ولكن لا غنى عنه!».

الثانية: ترى أن هامش المناورة أمام أردوغان بدأ يضيق، فالأطلسي لن يقدم له شيئاً جديداً، وجُل ما وعده به طائرات إف 16 قديمة، وأوراق موقعة لن تنفذ بشأن محاربة الإرهاب، وهو يعرف أن من يدعم المشروع الانفصالي في سورية هم حلفاؤه الأميركيون والأوروبيون، وأن حل هذا الملف لن يكون إلا بالتنسيق مع دمشق، وكذلك ملف اللاجئين، كما أن المخاوف الأمنية المزعومة لتركيا، والتي تحدث عنها عبد اللهيان لا تحل من خلال تنظيم القاعدة، ودعم الإرهاب، ومنطقة آمنة، والحدود الآمنة تتم من خلال اتفاقات، وضمانات دول بموجب القانون الدولي، وليس من خلال قطاع طرق، وعصابات، ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن التحولات العالمية، والشرق الصاعد فرصة ذهبية لتركيا لتنضم له، لكن وفقاً لقواعده ومبادئ، وسبق للرئيس بوتين أن حذر أردوغان من مصير الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف عندما قال له: «لا تكرر ما فعله الغربيون بغوراتشوف، عندما قدموا له وعوداً كاذبة لم ينفذ منها شيئاً».

وإذا كان لدى دمشق ألف سبب وسبب للشك بنيات أردوغان، فإنه ليس لديها أدنى شك بنيات وجهود طهران وموسكو، عسى أن يوفق عبد اللهيان بمد سلم النزول لأردوغان من أعلى الشجرة التي صعد إليها… وقد يكون باعتقادي هذا السلم الفرصة الأخيرة والوحيدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.