انتبه أنت مراقب

communications-monitoring

صحيفة البيان الإماراتية ـ
د. منار الشوربجي:

لو أن لك صديقا أميركيا يعيش في بلاده ويتواصل معك هاتفيا، أو قريبا مقيما في الولايات المتحدة ويراسلك عبر البريد الإلكتروني، فاعلم أنك على الأرجح مراقب! فكل اتصال تجريه بشخص داخل أميركا من خلال أية وسيلة اتصال، مراقب وسيظل مراقبا لسنوات خمس قادمة على الأقل.

وحكاية أنك مراقب تلك ليست جديدة، فهي بدأت بشكل غير قانوني بعد 11 سبتمبر، وصارت قانونية منذ عام 2008، ثم قام الكونغرس في ديسمبر الماضي بمد العمل بتلك المراقبة لخمس سنوات قادمة.

والقصة باختصار، أن صحيفة النيويورك تايمز كانت قد كشفت عام 2005 عن أن هيئة الأمن القومي – وهي واحدة ضمن عدد كبير من أجهزة الاستخبارات الأميركية – كانت تقوم منذ سنوات، وبناء على قرار أصدره بوش الابن بعد 11 سبتمبر، بمراقبة كل أنواع الاتصالات التي تجري بين أميركا والخارج، ودون الحصول على إذن من القضاء. وقتها دافع بوش عن ذلك البرنامج، من خلال عبارة وقحة قال فيها لمواطنيه “إذا كنت تتصل بإرهابيين في الخارج، نريد أن نعرف ماذا تقول لهم”.

ولا أحد بالطبع يعارض ملاحقة الإرهابيين، لكن وجه الوقاحة في عبارة بوش، هو اعتبار غير الأميركيين جميعا الذين يتصل بهم الأميركيون، إرهابيين حتى يثبت العكس، وهو أمر لا تقره المواثيق الدولية ولا حتى الدستور الأميركى نفسه.

فالتعديل الرابع للدستور الأميركي، ينص على “حظر انتهاك حق الناس في أمنهم على أنفسهم ومنازلهم وأوراقهم وحمايتها من التفتيش غير المبرر”. وينص التعديل على أن الإذن القضائي لا بد أن “يصدر بناء على سبب محتمل، ويحدد المكان الذي يتم تفتيشه والأشخاص المطلوب القبض عليهم والأشياء المطلوب تحريزها”. وبالمناسبة، يستخدم الدستور الأميركي مفردات مثل “الناس” “الأشخاص”، أي أنه لا يقصر الحريات الواردة فيه على “المواطنين” الأميركيين وحدهم.

وكان المنتظر بعد تلك الفضيحة أن يتم إلغاء ذلك البرنامج السري، أو تكييفه وفقا للقانون، لكن ما حدث كان العكس. فقد تبنى نائب الرئيس وقتها ديك تشيني، مشروع قانون لتعديل قانون الاستخبارات الخارجية، والمعروف اختصارا باسم “فايزا”، الصادر في عام 1978، يقنن برنامج بوش السري.

وقانون “فايزا” كان قد صدر بعد فضيحة ووترغيت، وبعد أن اتضح حجم الانتهاكات التي ارتكبتها أجهزة المخابرات الأمير

كية. وهو وقتها نص على إنشاء محكمة سرية تختص بفحص طلبات المراقبة والتفتيش، دون أن يتم الإعلان عن عملها ولا سجلاتها على الإطلاق، بما يسهل لأجهزة المخابرات أن تحصل على إذن قضائي، دون أن تزعم أن اللجوء للقضاء يؤدي لتسريب المعلومات لمن تريد مراقبتهم.

لكن تعديل تشيني كان عبارة عن تقنين للبرنامج السري غير القانوني، الذي فضحت أمره النيويورك تايمز في 2005.

فقانون 1978 كان يحظر المراقبة، إلا بعد الحصول على إذن قضائي يتحدد فيه بوضوح الشخص المستهدف والمكان المستهدف للتنصت والمراقبة، والتأكد من أن هناك سببا للاعتقاد بأنه يعمل لحساب دولة أخرى، بينما سمحت تعديلات قانون 2008 لأجهزة المخابرات بالتحلل من تلك الشروط. بل لم يعد على تلك الأجهزة أن تقدم للمحكمة قائمة بأرقام التليفونات أو حسابات البريد الإلكتروني التي ستراقبها، ولا حتى أين يقيم هؤلاء.

وقد حصن القانون شركات الاتصالات التي تعاونت مع برنامج بوش السري قبل افتضاح أمره، من أي ملاحقة قضائية. وقد صدر قانون تشيني فعلا في يوليو 2008، أي قبل شهور من خروج بوش الابن من البيت الأبيض.

لكن المفارقة الأكبر، هي أن أوباما الذي كان وقتها عضوا في مجلس الشيوخ ومرشحا للرئاسة، صرح بأنه سيصوت ضد مشروع القانون حين يعرض على مجلس الشيوخ، وما هي إلا شهور قليلة حتى آن وقت التصويت، فحنث أوباما بعهده وأدلى بصوته لصالح ذلك المشروع، قائلا وقتها إنه سيقوم بتعديله حين يصبح رئيسا!

ثم صار أوباما رئيسا، فاستخدم القانون بالضبط كما كان ينوي بوش استخدامه. ولأنه لا أحد يعرف شيئا على الإطلاق عن كيفية إدارة البرنامج، ولا مَن بالضبط الذين تتم مراقبة اتصالاتهم، فقد دفعت إدارة أوباما في كل قضية يتم رفعها ضد القانون، بأن المتظلم ليس ذا صفة، فهو لا يعرف أصلا إن كان مراقبا حتى يكون متضررا من القانون! وهو بالضبط المنطق الذي استخدمته إدارة بوش الابن.

ورغم أن التقارير الرسمية بعد صدور القانون بعام واحد، نقلت على لسان مدير المخابرات الوطنية اعترافه بأن هناك تجاوزات عديدة حدثت، وأن تلك التجاوزات اخترقت القانون والدستور، إلا أنه لم يعلم أحد نوع التجاوزات، ولا عدد المضارين منها، ولا ما إذا كان قد تم منع التجاوزات أوتعويض المضارين، لأن كل تلك الأمور محظور الإفصاح عنها بحكم القانون نفسه.

وعلى الرغم من كل ذلك، كان العمل بالقانون سينتهي في ديسمبر 2012، إلا أن إدارة أوباما هي التي طلبت من حلفائها في الكونغرس مد العمل به خمس سنوات أخرى.

لكن عددا من الأعضاء الديمقراطيين حاولوا إدخال بعض التعديلات على القانون، قد تسمح ببعض الشفافية، كأن تنشر وزارة العدل التابعة لها المحكمة السرية، رأي المحكمة في عدد من طلبات الإذن القضائي التي بتت فيها، أو حتى ملخصا مختصرا لها، أو أن يلزم القانون الحكومة الأميركية بنشر عدد المرات التي تمت فيها مراقبة اتصالات الأميركيين دون إذن قضائي. لكن إدارة أوباما رفضت أية تعديلات، وتم مد العمل بالقانون.

وعليه فلا أحد منا داخل الولايات المتحدة أو خارجها، يعلم ما إذا كانت شملته أو ستشمله الرقابة التي ينص عليها القانون!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.