باخموت وما بعدها

موقع قناة الميادين-

محمد سيف الدين:

ثمة سؤال كبير الآن عن جدوى الدعم الغربي العسكري للقوات الأوكرانية، وخصوصاً مع المخاطرة بانكشاف قدرات بعض الأسلحة ذائعة الصيت، مثل منظومة “باتريوت” الأميركية التي تعرضت للتدمير في كييف بصاروخ كينجال الروسي مؤخراً.

شكَّلت سيطرة فاغنر على باخموت محطة فاصلة في المواجهة الدائرة في أوكرانيا بين روسيا والغرب ستؤثر في مسار المواجهة الأكثر اتساعاً بين عالمين يتباعدان مع مرور الوقت؛ العالم الذي أدار النظام الدولي بعد الحرب الباردة، والعالم الذي يتطلع إلى إدارة متعددة الأقطاب لنظام جديد، أو لاعتراف بموازين القوى الحقيقية في النظام الحالي.

أسئلة واحتمالات
ومع الأخذ بالاعتبار أن هذه المعارك الضارية التي شهدتها هذه المدينة على مدى 224 يوماً وسيطرة الروس عليها لا يفرزان انتصاراً نهائياً وحاسماً في الحرب، إلا أن هذه المحطة ستطرح جملة تساؤلات عالية الأهمية عن مستقبل المواجهة، منها:

‏أولاً: سؤال كبير يتسع الآن عن جدوى الدعم الغربي العسكري للقوات الأوكرانية، خصوصاً مع المخاطرة بانكشاف قدرات بعض الأسلحة ذائعة الصيت، مثل منظومة “باتريوت” الدفاعية الأميركية التي تعرَّضت للتدمير في كييف بصاروخ كينجال الروسي مؤخراً.

الآن، ومع اتخاذ التحالف الغربي القرار بتزويد القوات الأوكرانية مقاتلات “أف 16″، تكثر الأسئلة عن مدى المخاطرة بسمعة هذه المقاتلات فيما لو واجهت انتكاسات مماثلة جراء مواجهتها مع الأسلحة الروسية، ثم إن السؤال الأساس عن جدوى الدعم الغربي سيكبر مع مرور مزيد من الوقت من دون شن هجوم أوكراني مضادّ ناجح.

‏ثانياً: حول الخطوة التالية التي يمكن للغرب اتخاذها؛ فمعركة باخموت شكلت نموذجاً مصغراً عن الحرب برمّتها، ذلك أن الغرب وروسيا على حدٍ سواء استخدما فيها أصنافاً من الأسلحة ونوعية من المقاتلين من بين الأكثر فاعلية، تحت مستوى الأسلحة الإستراتيجية المبعدة عن الاستخدام في المرحلة الحالية، نظراً إلى احتمالات التدمير الشامل المتبادل الذي يتضمنه استخدامها.

‏ثالثاً: حول القدرة المتبقية على تثبيت خط الدفاع الأوكراني بعد اختراقه في عمقه ومنع التدحرج المتسارع للجبهة. بُني خط الدفاع الأوكراني على طول خط المواجهة، وصمد لأشهر طويلة أمام الضربات الروسية، بل إنه تحرك إلى الأمام في محاور عديدة، كما في خيرسون وزاباروجيا، وفي الجبهة الشمالية الشرقية، لكنه، بسقوط باخموت، ضُرب في عمقه، الأمر الذي يهدّد بدينامية متسارعة فيما لو واصلت القوات الروسية التحرك غرباً بزخمٍ نحو تشاسوف يار.

في المقابل، بات معلوماً أنّ القوات الروسية بنت خطوط دفاع متينة خلال الأشهر الماضية على الخطوط الغربية للمناطق الأربعة أثناء الاستعداد لمواجهة هجوم أوكراني مضاد محتمل.

‏رابعاً: حول موارد جديدة غير غربية لاستمرار الدعم المالي لأوكرانيا. هذه النقطة تبدو فائقة الأهمية نظراً إلى طبيعة التحالف الغربي المؤلف من دول تحميها ديمقراطيات تمثيلية، وفيها حكومات منتخبة وتداول للسلطة ونقاش سياسي محموم ودائم محوره الاقتصاد. هذا النقاش -مع مرور الوقت واستمرار إرسال المساعدات المالية- يكتسب ميلاً متزايداً نحو خفض التمويل أو وقفه والتركيز على معالجة الأوضاع الداخلية، وعلى الأقل “تخيّل” طاولة المفاوضات.

في هذا السياق، يأتي ترتيب حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في القمة العربية الأخيرة في جدة، وطلبه الدعم العربي، والحديث عن استغاثة مسلمي أوكرانيا وتتارستان بالعرب والمسلمين.

‏خامساً: انطلاقاً من النقطة السابقة، سؤال عن وحدة الموقف الغربي من الحرب بمجملها، إذ تفقد المزيد من الدول الثقة بالانتصار. فقدان هذه الثقة سيقود الزخم الداعم نحو الوراء أو سيسرج أحصنة الحرب في الدول الغربية تحت وطأة خيار كبير بالمواجهة قد يتخذ. هذا الخيار ليس خياراً عقلانياً، نظراً إلى الاحتمالات الكارثية، لكنه يبقى ممكناً.

‏سادساً: حول حدود المقبول به في تصور الشكل النهائي للحرب. أوكرانيا بحدود ما قبل الحرب أم بما بعدها؟ هذا السؤال يفترض ميلين؛ أحدهما أوروبي ينحو باتجاه تفضيل ضمني غير معلن للحل السياسي حتى لو دفعت أوكرانيا ثمناً باهظاً في سبيله، والآخر أميركي يتمثل بتثبيت الحدود الحالية أو مع تعديلات معينة مرتبطة بتطورات عسكرية قريبة، وتثبيت آخر أكثر أهمية يتمثل بالحفاظ على روسيا متأهبة بكلفة عالية، والحفاظ في الوقت نفسه على أوكرانيا معادية لروسيا دائماً.

هذا السيناريو يكسب الأميركيين أفضل الممكن في الظروف الحالية، ويجنبهم من ناحية دفع فاتورة استمرار المواجهة، إذ يحصر الخسائر بالجانب الأوكراني، ويفيد من ناحية أخرى بتهدئة جبهة أوكرانيا والانتقال إلى جبهة مواجهة أكثر نشاطاً مع الصين.

‏سابعاً، حول احتمالات تورط دول من الناتو في الصراع مستقبلاً. هذا الاحتمال يناقض السيناريو السابق؛ في حال اتخذ التحالف الغربي قرار الاستمرار في تزخيم الحرب الأوكرانية، وهو ما يعززه التصعيد الغربي الآن من ناحية رفع مستوى التسليح والتصريح ضد روسيا، وإطلاق الحزمة الحادية عشرة من العقوبات عليها، لكن هناك أيضاً افتراضٌ منطقي معاكس في الاتجاه، يقول إن التصعيد الحالي قد يكون مرحلياً لامتصاص الزهو الروسي بنصر باخموت، ثم تعود الحسابات إلى دائرة العقلانية بعد ذلك، وخصوصاً مع نمط روسي يبدو هادئاً نوعاً ما تجاه التطورات الأخيرة.

ثامناً، حول الحدث والشكل والجهة التي يمكن تطلق المسار السياسي لوقف الحرب، إذ كثرت محاولات الوساطة وتعددت جهاتها، مع عدم نجاح أي منها بالتحول إلى صيغة أولية صالحة للبحث على نطاقٍ واسع وقابل للحياة وفق ما هو معلن، وحتى الآن فقط.

تاسعاً: حول معنى الهجوم الأوكراني على محيط بيلغورود الروسية، واحتمالات تحول هذا النوع من الهجمات إلى نمط يعيد خلط الأوراق، ويدفع روسيا إلى إدخال عاملي الأمن الداخلي والاستقرار السياسي والاقتصادي في حسابات الحرب. هذا احتمال جديد، لكن هناك في المقابل احتمالٌ معاكس، يفترض أن هذه الخطوة أيضاً جاءت لتعويض الضربة المعنوية الكبرى بخسارة باخموت، وأنها خطوة منفصلة لا يمكن أن تتحول إلى نمط عسكري قابل للاستمرار.

كيف تتطور الأحداث؟
لا يدير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرباً تقليدية في أوكرانيا. معروفٌ عنه أنه غير مُتوقع. صبور جداً ويفضل أن يضرب أولاً، ومعروف أيضاً على الضفة الأخرى وجود مجموعة رؤى للحرب، لكل واحدةٍ مستوى وأهداف ومدى، وأن الذهاب إلى المواجهة في أوكرانيا بشكلها الحالي كان تعبيراً عن قراءات متباينة للضرورات وللنتيجة المتوقعة وللمآلات، لكن الطرفين كانا واثقين بالنصر، وإلا لما جرت الحرب بهذه الضراوة.

بعد عام، كان الجميع ينتظرون الهجوم الأوكراني المضاد. لُحظت حركته الأولى بعدما وصلت الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا. تم تجاوز الخلافات حول الدبابات (ليوبارد خصوصاً). كان ثمة نشاط مكثف للقوات الأوكرانية على الجبهات بموازاة استهداف العمق الروسي بعمليات اغتيال ومسيرات، أهمها استهدفت الكرملين.

ملامح أخرى لهذا النشاط ظهرت باستهداف القرم وبنى تحتية روسية في الداخل، وقصف لوغانسك بصواريخ “ستورم شادو” البريطانية بعد استلامها. لم تعلن كييف بدء الهجوم المضاد رسمياً، بل أعلنت حاجتها إلى مزيدٍ من الوقت، وتركت المرحلة الأولى لاختبار الرد الروسي. موسكو قدّرت أن الهجوم بدأ عملياً، ومن دون إعلان، وبدأت بتعطيله.

شنت القوات الروسية ضربات عنيفة غير مسبوقة. في الأسبوع الأول، ليالٍ كاملة من القصف الصاروخي على نقاط محددة بدقة في المدن الأوكرانية البعيدة. تالياً، قصفٌ مفاجئ لمركز تجمع الذخائر الغربية في خميلنيتسكي أودى بذخائر “ليوبارد” الألمانية وقذائف اليورانيوم البريطانية. لقد كانت ضربة شديدة التأثير في القدرات الأوكرانية.

بعدها ضرب صاروخ “كينجال” منظومة “باتريوت” في كييف، وأربع منصات أخرى في أوديسا وتشيرنوفتسي وجيتومر وتشيرنيغوف. الضربة كانت متعددة الأبعاد. في المباشر، حيّدت جزءاً كبيراً من الدفاع الجوي الأوكراني. وفي التداعيات، ضربت أسهم الشركة المصنعة لـ”باتريوت”. وأبعد قليلاً، هزّت الثقة بالمنظومة عند الدول التي تعتمدها للحماية الجوية.

بريطانيا أرسلت صواريخ “ستورم شادو” البعيدة، فأسقطتها روسيا. تداعيات مماثلة هنا أيضاً. بعدها، قصفت القوات الروسية تجمعاً آخر كبيراً للأسلحة في أوديسا، إضافة إلى جسر التموين الغربي الرابط بين أوكرانيا ورومانيا (عضو “الناتو”). هكذا حيّدت موسكو الرهانات العسكرية السابقة للمعسكر الآخر.

تحرك زيلنسكي. بعث رسالة سرية إلى الحلفاء يشرح فيها ظروف الهجوم المضاد، وأعلن أنه ممكن الآن، لكنه كلفته البشرية باهظة، وأنه يحتاج مزيداً من الوقت. وفوراً، بدأ جولة أوروبية. بريطانيا استجابت للتطورات بتأييد إرسال مقاتلات “أف 16” ورفع الرهان العسكري الأوكراني فقط.

الولايات المتحدة تريثت بدايةً، فالدلالات العسكرية عميقة. انتظرها الأوروبيون لتقوّم الموقف؛ فدولهم الكبرى تعرف أنها أكبر خاسر من استمرار الصراع، لكن التمني شيء، والضرورات شيء آخر. في المحصلة، يفضلون أن تدافع كييف عن نفسها إلى حين إيجاد الصيغة السحرية لإسكات البارود.

لكن الولايات المتحدة عادت وحسمت أمرها بالموافقة على تسليم المقاتلات الأميركية لأوكرانيا وتدريب الطيارين عليها. لقد كانت خطوةً ملحةً بحكم مخاطر انهيار الجبهة بشكلٍ حاسم؛ فالانعكاسات المعنوية لخسارة باخموت قد تؤدي إلى تدحرج دراماتيكي للأحداث يودي بالموقف كله.

أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ رحّب بتزويد أوكرانيا بصواريخ مجنحة وبدء تدريب طياريها. هكذا، بدا أن إرسال الطائرات المقاتلة تحوّل ليكون الرهان العسكري الجديد للتحالف الغربي الآن، لكن كييف التي لمست نتائج المعركة الأخيرة من قرب، تحمل رؤية مختلفة فيها تباينٌ جوهريٌ مع هذا الرهان، ليس مع الحصول على الطائرات، إنما مع فكرة تركها وحدها في مواجهة الروس.

لذلك، أطلقت زخماً جديداً باتجاه اقتناص عضوية الناتو بدلاً من طائراته فقط. هكذا، سيكون الحلف ملزماً بالدفاع عنها، فيما الحلفاء يريدون التسليح من بعيد وتجنّب مواجهة مباشرة مع روسيا.

الجهد الدبلوماسي الأوكراني هذا يحفّز الانقسام داخل الحلف؛ فواشنطن وبرلين تعارضانه، ودولٌ أخرى تبدو معارضتها مؤكدة. المتحمسون من المسؤولين الأوروبيين لا قوى عسكرية لديهم. هم بدورهم محميّون أميركياً وخائفون، ثم إن امتداد الصراع يضيّق الهوامش أيضاً، ويزيد التهديدات الأمنية بشكلٍ بالغ الخطورة، ويرفع الكلف الاقتصادية إلى درجةٍ قريبة.

الأزمات الاقتصادية والمالية تتسع، وتفاعلاتها الداخلية تتسارع. الحرب تصبح عبئاً مع مرور الوقت، لكن العبء أهون من ترك التفاعلات الطبيعية ترسم قوانينها الجديدة. على الأقل، هذا هو التصور الغربي حتى الآن؛ فمعركة العالم الغربي هي الحفاظ عن القوانين الناتجة من الحرب العالمية الثانية، بل من الحرب الباردة على وجهٍ أكثر دقة.

تحرك الفاتيكان لمحاولة إحداث خرق باتجاه السلام، إذ أشارت معلوماتٌ إلى موافقة بوتين وزيلينسكي على استقبال مبعوثي قداسة البابا فرنسيس لبحث التسوية، لكنها لفتت أيضاً إلى تقدمٍ “محدود للغاية”، وأن الأمر معقدٌ جداً، علماً أن البابا قام بتعيين شخصيةٍ كنسية لإدارة هذه الجهود.

أما تحرُك زيلينيسكي باتجاه العرب، فبدا محاولة متعددة الأهداف قوتها الدافعة الرئيسة أميركية، وأهدافها الرئيسة تتمثل من ناحية بإيجاد مورد مالي جديد من خارج الاقتصادات الغربية مع اشتداد صعوبة الحصول على أموال الحكومات هناك، ومن ناحية ثانية بموازنة الظهور الإعلامي للرئيس السوري بشار الأسد بين العرب في قمة جدة، وفق افتراض يقول إن حضور زيلنسكي سيسحب قدراً معتبراً من وهج حضور الأسد وتبعاته السياسية على المصالح الأميركية في المنطقة، مع إصرار العرب على النظر إلى مصالحهم بواقعية لافتة، وطموحهم الواضح الآن لأداء دورٍ جديد في عالمٍ متعدد الأقطاب، وهو تحديداً ما يحاكي مضامين رسالة بوتين إليهم في القمة.

أخذت “فاغنر” باخموت. أحداث السنة الأخيرة وتفاصيل أخرى داخلية توحي بأن ظهور تشكيلات شبيهة سيكون ممكناً. النمط يعمل، وهو يبدو مفيداً بالنسبة إلى موسكو، لكنه بحاجة إلى الضبط. كل شيء يشير إلى أن الكلمة لا تزالُ للميدان وللضغوط التي يحدِثها في وزارات المال والمصارف المركزية والبورصات قبل وزارات الدفاع.

لكن ماذا بعد باخموت؟ لا تبدو روسيا في عجلةٍ واضحة للخطوة التالية، بل إنها على العكس من ذلك تبدو أكثر انضباطاً سياسياً في محاكاة الحدث. هذا يشير وفق احتمالٍ متماسك إلى تفضيل موسكو مراكمة مكاسب متينة، واستيعاب وقع النصر في باخموت، وتغليب أولوية الاستقرار والانعكاسات المقبلة لاستمرار الحرب على اقتصاد البلاد واستقرارها الداخلي على إغراء الاندفاع بعيداً.

أحياناً، لا يقل استيعاب النصر خطورة وأهمية عن استيعاب الهزيمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.