برامج تلفزيونية تهدد السلم الأهلي والاجتماعي .. من يرفع في وجهها البطاقة الحمراء؟

 

موقع العهد الإخباري ـ
محمد الحسيني:
في 7 آذار 2013 اجتمع 21 رئيس تحرير وممثل عن مختلف الوسائل الإعلامية في لبنان برعاية وزارة الإعلام، لمناقشة محتوى ميثاق الشرف الإعلامي. ولم يكن ميثاقاً عاماً وشاملاً بل محصوراً بضبط الخطاب الإعلامي والسياسي لوسائل الإعلام، وتحت عنوان “تعزيز السلم الأهلي في لبنان”. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا الحاضر لم يجد هذا الميثاق طريقه إلى التنفيذ. والقضية في الإعلام تتظلّل دوماً بشعار حرية الرأي، وهذا مبدأ مُصان ومطلوب، ولكن هل تقف مسألة ميثاق الشرف عند حدود الموقف السياسي فقط؟ وهل حصر الأمر في هذا الجانب يعطي وسائل الإعلام الحق في إطلاق العنان لضرب البنية الأخلاقية للمجتمع اللبناني؟

الحرية والمسؤولية
لا ينفصل مفهوم الحرية عن المسؤولية، فالقاعدة تقول: “لا يمكننا أن نقول أي شيء، لأي كان، في أي مكان، في أي وقت وبأي طريقة، لأن ذلك يترتب عليه انعكاسات”. وتعبير الأخلاق الإعلامية (ethique) يتناول التصرف الأخلاقي لأي إنسان. وهذا التعبير بحسب أرسطو يعني “الطبائع الشخصية الناتجة عن العلاقة بين الرغبات والعقل”. إنه الميدان للتردد والقرار، ماذا نقرر أمام قضية ما؟ أو أي موقف نتخذ؟ القرار هنا يكون أخلاقياً بقدر ما يسعى إلى الابتعاد عن اعتباطية الغرائز والأهواء عن كل ميل غير عقلاني.. إنه التطلع إلى تصرف حكيم انطلاقاً من القيم السائدة”.
ويمتاز لبنان بحرّيته الإعلامية، ولكن عندما تتنافى هذه الحرية مع المسؤولية، وعندما تتنافى مع الكرامة ومع الأخلاق الإنسانية، فإنها تصبح آلة تدمير اجتماعية وأخلاقية، فليس المهم فقط أن تعكس وسائل الإعلام مواقف المسؤولين السياسيين في لبنان وخارجه، بل الأهم أن تكون أدوات توجيه وإرشاد، لا سيما بعد أن تجاوزت هذه الوسائل وظيفتها في الترفيه مع ثورة التكنولوجيا الرقمية والانفتاح الإعلامي غير المحدود على مستوى العالم.

برامج لتوهين الدين
والإعلام في لبنان، ولا سيما بعض محطات التلفزة، يساهم في نشر حالة من التفلّت الأخلاقي، من خلال ترويج أفكار وثقافات معولمة تحمل في طياتها سموماً تربوية واجتماعية تجاوزت الخط الأحمر وتنذر بالخطر الكبير. وهناك الكثير من الأمثلة عن هذه البرامج، وغالبيتها تستهدف المفهوم الديني، والمقصود ليس طائفة بحد ذاتها، إسلامية أو مسيحية، بقدر ما هو منهج مدروس يقود إلى توهين الدين كمعتقد، وتعتمد بذلك على:
• إبراز النموذج السيئ لبعض الأشخاص الذين يتسترون بزي رجل الدين، ويستخدمون الدين في تصرفات وسلوكيات غير أخلاقية أو لأهداف مصلحية تجارية لا تمت للدين وأخلاقياته بصلة.
• اختيار أشخاص يرتدون لباساً دينياً (كالحجاب) أو يتمظهرون بمظاهر الالتزام الديني، ويبرزونهم على أنهم من دعاة الحضارة والتمدّن، ولا مشكلة لديهم في العلاقات الكاملة بين الجنسين وارتياد الملاهي الليلية والرقص، باعتبار أنهم متدينون منفتحون على الآخر وعلى ثقافة الحياة.
• إبراز أشخاص يدّعون التدين والتعلّق بالخوارق من قبيل السحر والتنجيم وحركات الشعوذة، وتسليط الضوء على ممارساتهم اللاأخلاقية، ولا سيما مع النساء، واستغلالهن للربح المادي.
• إثارة قضايا فضائحية لا أخلاقية، وتعمّد إبراز الطائفة التي ينتمون إليها والمناطق التي يسكنون بها، وذلك في عملية ربط خبيثة بين الطائفة والمنطقة وبين الممارسات السيئة التي يقوم بها هؤلاء.

إباحية محجّبة
على أن أخطر ما في الأمر هو تعمّد إشراك الأشخاص الذين يتمظهرون بالمظهر الديني الملتزم في برامج تدعو إلى الانحلال والتفلت الأخلاقي، فتظهر الفتاة المحجبة التي ترقص وتعطي دروسا خاصة في الرقص الغربي، والمرأة التي تنزع حجابها على الهواء مباشرة، وتلك التي ترتدي بذلة رقص وهي محجبة، أو تلك الفتاة المحجّبة التي تشارك في برنامج تلفزيوني يعرض في كل حلقة شابا يستعرض مواهبه وشخصيته، وتقوم مجموعة من الفتيات بالتصويت عليه لتربح أخيراً فتاة واحدة فرصة أن تكون الـ (girl friend) الخاصة به.
ولكن الملفت ليس فقط في فكرة البرنامج وطريقة العرض، ومشاركة النساء من كل الأعمار، وإحداهن تتواجد مع ابنتها، بل بالأفكار التي يتم مناقشتها في كل حلقة، ومنها تشجيع “العلاقة الجنسية” قبل الزواج، حيث أجمعت مواقف كل المشاركات على تأييد هذا الأمر، مع استخدام عبارات إباحية مباشرة. أما المحجّبة التي ظهرت متبرّجة فلم توافق على ذلك، ولكنها في النهاية هي التي فازت بالشاب “المعروض”، وبدأت تتراقص على أنغام الموسيقى المصاحبة لإعلان فوزها، وهذا يعني أنها انساقت مع الفكرة.

ميثاق يحفظ السلم الأهلي
هذه البرامج التي تتخذ الطابع الترفيهي “المحبّب” لدى الجمهور تأخذ طريقها بقوة إلى الأذهان وتحفر عميقاً في اللاوعي الإنساني، وهي بالتأكيد ليست برامج عفوية، بل هي ممنهجة ومبرمجة على مستوى الفكرة والتوجيه واختيار الشخصيات، وحتى على مستوى تحديد الأسئلة والأجوبة. والملفت أن هناك توزيعاً للأدوار والوظائف بين محطات التلفزة اللبنانية، لا سيما أن لكل محطة جمهورها الخاص، وبالتالي فإن الحملة ليست مقتصرة على وسيلة واحدة، بل كل الوسائل التي تبث هذا النوع من البرامج هي شريكة عضوية في هذه الحملة، وذلك بهدف خلق حالة إشباع شاملة للجمهور الذي ملّ أخبار السياسة والحرب، وصولاً إلى صياغة شخصية تربوية جديدة لا تشبه المجتمع اللبناني بشيء.
في إحدى الندوات التي نظمها المركز الكاثوليكي للإعلام أعلن وزير الإعلام ملحم رياشي مقولة مهمة أكّد فيها: “المهم بناء البشر وليس بناء الحجر، والأهم هو بناء الإعلامي الذي هو صاحب المؤسسة الاعلامية والباقي يصبح من التفاصيل”. وعليه فإن وسائل الإعلام اللبنانية مسؤولة عن هذا التفلّت، ووزارة الإعلام اللبنانية وغيرها من الوزارات المختصة والجمعيات المعنية مسؤولة عن ضبط هذا التفلت، وبالتالي بات لزاماً العمل على وضع ميثاق إعلامي – ثقافي – اجتماعي شامل يشدّد على أصالة الانتماء للمجتمع اللبناني ويحمي هويته الثقافية، فليس الخطاب السياسي والشحن الطائفي فقط يهدد السلم الأهلي في لبنان، فإن ضرب الهوية وتغريب المواطنة في لبنان تحمل مخاطر أكبر من الحرب، وتهدد السلم الأهلي فعلاً لا قولاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.