بين تدخل موسكو في كازاخستان وحياد الصين: الأبعاد والنتائج

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج:

طرحت الاضطرابات التي وقعت في كازاخستان مطلع الشهر الجاري، علامات استفهام كثيرة حول الموقف الصيني تجاه الأحداث في هذا البلد الذي كان أقرب إلى المراقب، بخلاف ما فعلته روسيا التي سارعت الى حماية نفوذها هناك، ورفعها البطاقة الحمراء بوجه كل من يهدد أمنها، من خلال استخدام القوة العسكرية عبر قيادتها “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، الأمر الذي أشعل جدلًا في بكين حول جدوى سياسة الحياد التي اتبعتها في كازاخستان خلال الأزمة.

غني عن التعريف أن بكين التزمت في السابق في علاقاتها الدولية، بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. إلا أن ما حصل في كازاخستان مؤخرًا، سيجبر الصين على إعادة النظر بسياستها الخاصة بحماية الاستثمارات الصينية في الخارج.

أما كيف؟ فالإجابة تكمن بالتدخل الروسي (وقيادة روسيا لمنظمة معاهدة الأمن الجامعي).
في الواقع، هزتّ العملية الناجحة لـ”منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، هذا المبدأ (مبدأ الصين بعد التدخل)، فظهرت روسيا بمظهر الشريك والحليف الذي يعتمد عليه خصوصًا وقت الشدائد عندما مدت يد العون الى كازاخستان، بينما اكتفت الصين بالتفرج، كأي دولة بعيدة عن كازاخستان، وبدا كأن الصين غير معنية فعليًا حيال ما يجري في تلك الدولة.

ومن ناحية أخرى، مع أن البلدين (أي الصين وكازاخستان) تربطهما علاقات اقتصادية وتجارية كبيرة، وبالرغم من أن الصين استثمرت الكثير من المال في اقتصاد كازاخستان، غير أن الأزمة الكازاخستانية كشفت بحسب خبراء روس، أن مصير هذه الاستثمارات ومصالح بكين تتوقف على إرادة الاتحاد الروسي.

فوفقًا لوكالة Eurasianet (المعنية باخبار جنوب القوقاز وآسيا الوسطى) تعدّ الصين أكبر شريك تجاري لكازاخستان التي تلعب -إضافة الى ذلك- دورًا رئيسيًا في تنفيذ مشروع الحزام والطريق الرائد للرئيس شي جين بينغ، حيث بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في كازاخستان بين عامي 2000 و 2017، حوالي 33 مليار دولار.

بين تدخل موسكو في كازاخستان وحياد الصين: الأبعاد والنتائج

وفي مقارنة بين استراتيجية بكين وموسكو في تعاملهما مع اوضاع كازاخستان، تشير وكالة بلومبرج الدولية للأنباء، الى أنه غداة “اندلاع أعمال الشغب في كازاخستان، أخذت كل من موسكو وبكين أدوارهما المعتادة: بندقية ومحفظة. روسيا الضامن الرئيسي للأمن، بينما كانت الصين راضية عن دورها المعتاد في الحفاظ على نفوذها من خلال الاستثمار”.

علاوة على ذلك، صحيح أن الصين لم يصدر عنها أي بوادر تقودنا الى أنها غير راضية عن تدخل “منظمة معاهدة الأمن الجماعي، خصوصًا وأن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أوضح في محادثة مع نظيره الروسي سيرجي لافروف أن “الصين تدعم أعمال منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهذا امر طبيعي نظرا للتحالف والعلاقات الوطيدة بين الدولتين، الا أن ردة فعل الصين بالمقابل على “التمرد” كان غريبًا، إذ إن الفوضى في كازاخستان، فيما لو نجحت، كانت ستكون بمثابة الكابوس الحقيقي للصين.

لكن مهلًا، في الحقيقة، قلبت الأزمة الكازاخستانية الموازين، ودفعت بكين الى اعادة النظر جديًا باستراتيجية “المحفظة” التي أظهرت هشاشتها، دون تدعيمها بالقوة العسكرية.

فالأزمة الكازاخستانية تسببت في بروز نقاش في الصين، وقد تمحور حول ضرورة إعادة النظر في النهج القديم وحماية مصالحها الاقتصادية بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر تفاديًا لأي خسارة مقبلة، خصوصًا وأن كازاخستان، ليست فقط موردًا للنفط والغاز للصين، بل أيضًا مصدر لليورانيوم والنحاس.
زد على ذلك، أن بعض الاجراءات التي اتخذتها السلطات الكازاخستانية، جعلت بكين تشعر بالقلق، وأبرزها التعديل الوزاري على المستوى الأعلى الذي أجراه الرئيس قاسم جومارت توكاييف، إذ أدى هذا التغيير الحكومي الى الاطاحة برجل بكين كريم ماسيموف – الذي يرأس لجنة الأمن القومي في كازاخستان ويجيد اللغة الصينية بطلاقة، ويعدّ ممثل اللوبي الصينى فى نور سلطان – حيث تم القاء القبض عليه واتهامه بالخيانة، من هنا تنبع خشية بكين من أن تتأذى مصالحها الاقتصادية مستقبلًا.

وبناء على ذلك، علقت صحيفة الفاينانشيال تايمز قائلة: “ما إن عاد الجنود الروس إلى ديارهم حتى بدأ وقت التوقعات المقلقة بالنسبة للصين. فاستراتيجية الحذر من التدخلات في الخارج أثارت سيلًا من الأسئلة داخل الصين وفي مقدمتها: ما الذي يجب فعله لحماية مصالحنا العالمية؟ فعندما اندلعت الأزمة السياسية في 2 كانون الثاني، وقفنا جانبا”!

عمليًا، أكد السلوك الصيني أثناء الأزمة، صوابية هذه التساؤلات. ففي بداية أعمال الشغب، بدا أن الصينيين قد تجمدوا وتجنبوا الإدلاء بأي تصريحات. يمكن ملاحظة ذلك من صمت حسابات السفارات الصينية على الشبكات الاجتماعية.

لكن بعد أسبوع واحد فقط، أعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أن الصين مستعدة لتعزيز التعاون مع كازاخستان في مجال الأمن. بالمقابل، ردت السلطات الكازاخستانية بأن العرض قُدم بعد فوات الأوان، ولا يوجد أساس قانوني لقبول أي جنود بخلاف جنود منظمة معاهدة الأمن الجماعي. وثم تم بعد ذلك، تسليم رسالة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى نظيره الكازاخستاني قاسم جومرت توكاييف 7 في كانون الثاني الجاري، وأعرب فيها “عن دعم الصين لكل الجهود التي ستساعد سلطات البلاد في حل الوضع بأسرع وقت ممكن”.

لماذا حصل ذلك؟

يلفت الخبراء، الى أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى فرضيات. يقول فاسيلي كاشين، زميل أبحاث رائد في “معهد الشرق الأقصى الروسي”: “أعتقد أن الجواب يتمثل بالآتي: بعد بدء الوباء، خفضت السفارات الصينية بشكل كبير اتصالاتها في البلدان المضيفة. ما زالوا يعملون في وضع الطوارئ. نادرًا ما يعقد الدبلوماسيون العاديون اجتماعات. نتيجة لذلك، لم يستطع الصينيون تقدير مدى توتر الوضع في كازاخستان. لم يعرفوا ماذا يفعلون. وفقط، وعلى الأرجح، وبعد تلقي توضيحات من الجانب الروسي، أعلنوا دعمهم للرئيس الحالي. بالطبع، رد الفعل البطيء هذا لا يضيف مصداقية للصينيين”.

أما على المقلب الآخر، فقد كان تحرك الكرملين حاسمًا، وصب في صالح الصين بشكل أساسي، وهو قام على رؤية روسية مفادها: أنه إذا لم يتم قمع المذابح، فعلى الأرجح أن أهداف الهجوم كانت في الأساس الشركات الصينية، لا سيما أن المشاعر المعادية للصين قوية للغاية. ومع أن العلاقات بين الكازاخستانيين والصينين طويلة وقديمة، غير أن نظرتهم للصينيين ليست دائمًا ايجابية.

في الآونة الأخيرة، تأثرت المشاعر الكازاخستانية بتشديد النظام السياسي في شينجيانغ، والذي أثر ليس فقط على أقلية الأويغور، ولكن أيضًا على عرقية الكازاخ الذين يعيشون هناك.

ما هي الرؤية المستقبلية للصين لحماية مصالحها؟

يستنتج بعض المحللين الصينيين، أنه كان من الضروري العمل بنشاط أكبر في كازاخستان. ويرى هؤلاء أنه “يجب على بكين زيادة قدراتها للرد على مثل هذه الضربات ليس فقط داخل بلدنا، ولكن أيضًا في البلدان المجاورة”.

يقول شين يي، الأستاذ بجامعة فودان في شنغهاي: “يجب أن يصبح هذا الأمر تحديًا استراتيجيًا جديدًا تمامًا، لا سيما أن الصين كانت بدأت خطوات في هذا السياق، وذلك عبر إنشائها بالفعل قواعد للشرطة العسكرية في طاجيكستان، وقد تمثلت مهمتها بوقف تسلل المسلحين من أفغانستان وباكستان وطاجيكستان إلى شينجيانغ، حيث يعتنق غالبية السكان الإسلام”.

أما المثال الآخر على المساعدة العسكرية الصينية للدول الأخرى فتقدمه جزر سليمان، فعندما اندلعت أعمال الشغب هناك، وعدت بكين بمساعدة الدولة الفقيرة في تدريب ضباط الشرطة.

الآن ومع عودة الهدوء الى كازاخستان، وتعالي الأصوات في بكين للمطالبة بالحاجة إلى تغيير الاستراتيجية ودعم مشاريع طريق الحرير الجديد بالوسائل العسكرية، من البديهي أن يكون السؤال التالي هو: هل ستكون الأزمة الكازاخستانية بداية عصر التدخلات العسكرية الصينية حماية لاستثماراتها ومصالحها ونفوذها في العالم؟ وحدها الأيام القادمة ستخبرنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.