حزب الله في سوريا: صهر «المنظومة الشمالية»

Qusayr-syrian-army

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
حسام مطر:

الدخول في تفاصيل السياسة من دون ملاحظة السياقات البنيوية للأحداث، يؤدي إلى كثير من التضليل واللغط والضبابية، بحيث تبدو الحجج المتناقضة مقبولة أو فيها وجهة نظر. أغلب من يناقشون وينتقدون حزب الله يستخدمون هذا المنهج، تجميع للنقاط السوداء المتناثرة في خطاب وممارسات وسياسات الحزب وتكرارها وترديدها بكثافة لإنتاج معنى محدد لهوية الحزب ومشروعه وسياساته. من الصعب جداً فهم السياسات ذات البعد الإقليمي وحتى الوطني في الشرق الأوسط، من دون وضعها ضمن إطار الصراع المحتدم منذ نهاية الحرب الباردة، بين المحور الذي تقوده طهران، وذاك الذي تقوده الولايات المتحدة.
في أيار 2000 وجه حزب الله ضربة «تاريخية» إلى المحور المقابل، نتج عنها كشف محدودية القوة العسكرية الإسرائيلية، تضاؤل نفوذ واشنطن والأهم تعرية النظام العربي الرسمي على نحو كامل. ما حصل في 2006 كان محاولة أميركية لوقف صعود محور المقاومة في البيئة الإقليمية، كان ضربة «استباقية» من محور «الستاتيكو» إلى محور «صاعد» قبل اكتمال صعوده وإنهاء حالة الهيمنة. أنهى فشل عدوان 2006 النظام الإقليمي في الشرق الاوسط، الذي تربعت عليه واشنطن فأصبحت بحاجة إلى تحقيق توازن قوى إقليمي من دون دور مباشر لها في المنطقة، مما استدعى منها تغييراً شاملاً في اللعبة الإقليمية، لاعبين جدداً (تركيا وقطر)، أدوات جديدة (أدوات القوة الناعم) وخلق إطار صراعي جديد (المواجهة المذهبية).
حين انطلقت الأحداث في سوريا، سارع المحور الأميركي المتعطش لتعويض الخسارة «الطازجة» في العراق إلى استغلال المطالب المشروعة للمعارضة وأخطاء وخطايا النظام، وتمكن من وضع سوريا تحت مأساة الحرب الأهلية. أغلب قادة المعارضة السورية اندمجوا بالكامل مع المحور الأميركي، آخرون منهم اتخذوا «التكفيرية» منهجاً، وأصبحت الأزمة السورية في صلب توازن القوى الإقليمي، وخرجت من سياقاتها الداخلية. حينها لم يعد من الممكن لحزب الله وحلفائه أن يكتفوا بخطاب الدعوة إلى الحل السياسي والحوار ومحاولة فتح خطوط مع المعارضة، كل ذلك انتهى لأن المحور الأميركي بقدراته المالية والسياسة والإعلامية المذهلة تمكن من جر المعارضين إلى لعبته الإقليمية.
بعد سنتين من أكثر الأزمات «الداخلية» تدويلاً في التاريخ السياسي لما بعد الحرب الباردة، قرر حزب الله أخيراً بدء التدخل الميداني في سوريا حين أصبحت صورة الصراع «إقليمية» بالكامل. حزب الله لا يتدخل ضد الشعب السوري، فالشعب السوري منقسم، ولا يتدخل ضد الأبرياء والآمنين، بل يواجه هجيناً من التكفيريين والمرتزقة والمغرر بهم، الذين انقلبوا الى خنجر في قلب محور المقاومة، ورمح في خاصرة حزب الله. فعلياً وقبل أن يتدخل حزب الله في الأزمة السورية كان الحزب قد خسر كل ما يمكن أن يخسره، ولا سيما في ما يخص صورته أمام جزء من الرأي العام السوري والعربي، الذي اقتنع بتدخل الحزب منذ الأشهر الأولى، وجرى التصويب عليه من زاوية مذهبية «كحليف لنظام علوي خدمة لمصالح إيران الإقليمية»، كما تردد المنظومة الإعلامية المقابلة. إذاً بعدما جرى زجّ الحزب في الفتنة، وتشويه صورته، والتشويش على ماضيه، والتلاعب بهويته، وإضعاف حليفه العربي الأهم، ماذا يمكن أن يخسر حزب الله بعد أكثر من ذلك؟ حينها لم يعد بإمكان الحزب إلا التدخل، لأن النتائج السلبية المفترضة للتدخل سبق أن تحققت، وبناءً عليه أصبح التدخل ضرورياً من باب تقليص الخسائر وبناء مسار جديد يتيح التعويض عن بعض الأضرار المتحققة. لقد قدمت المعارضة السورية كل الممارسات والحجج والمسوغات لتدخل الحزب في سوريا، وحاولت «حشره في الزاوية»، لا لشيء بل فقط لخدمة الممول والمشغل، ولما أخرج الحزب «مخالبه» علا الصراخ والعويل والاستعطاف.
حسب ما أعلن السيد نصر الله فإن دور حزب الله في القصير هو دفاعي اولاً، وهو سيؤدي تلقائياً الى قطع الشريان اللبناني لضخ السلاح والمقاتلين الى المعارضين في سوريا. تدخل الحزب بهذه الحدود هدفه العام هو تثبيت توازن قوى في محاولة لدفع التسوية السياسية عبر إقناع المعارضين بأن العنف اصبح عبثياً، وهذا هو النصر المقصود بكلام السيد نصرالله، إذ إن الحزب يعي أنه لا إمكان لحسم عسكري شامل في سوريا، ويدرك الحزب ايضاً محدودية قوته في الأزمة السورية، لذا سيبقى تدخله محدوداً، موضعياً، مقنناً، ومُرشداً الى أقصى الحدود. بهذا المعنى يكون الحزب قد حدد هدفاً « قابلاً للتحقق» لدوره في سوريا. فهو لا يتحدث بلغة سحق المعارضة او حسم الصراع أو القضاء على التكفيريين، بل يتعامل مع نقاط محددة بدقة، وهذا مقتضى النباهة السياسية، وجزء من الحكمة في إدارة المعركة.
إن المقاومة وبيئتها تخوضان المعركة في القصير بكثير من الغصة والأسى رغم العزيمة والثقة بأنها معركة مفروضة لا مفر منها. يفضّل هؤلاء أن يقاتلوا العدو الأصيل كما فعلوا أبداً. يفضل هؤلاء عدواً يليق بهم. يفضّل هؤلاء أن يستشهدوا بيد الإسرائيلي، لكن لم يُترك لهؤلاء الخيار، أتاهم العدو متمترساً بأبناء جلدتهم كما فعلت دوماً كل قوى الاستكبار. أكثر من سنتين على الأزمة في سوريا، يحق فيها للمحور الأميركي أن يزج بكل ما يملك من مقدرات وأدوات قذرة في هذه الحرب خدمة لحسابات إقليمية تتصل مباشرة بالمقاومة، لكن حين يتدخل حزب الله أخيراً ببضع مئات من مقاتليه في منطقة حدودية مع سوريا يصبح هو المعتدي والمفتري والعبثي والمذهبي، لا غوغائية وتضليل بعد ذلك. من الآخر، في أيار 2013 نُعاقب على فعلتنا في أيار 2000، والفطنة أن لا نتجاهل ذلك، فحماية النصر أوجب من النصر ذاته.
لأصحاب العقول المذهبية «الحامية» في العالم العربي والإسلامي، صلاح الدين الأيوبي قتل ألوفاً مؤلفة من مسلمين وعرب بحجة تعاونهم مع الصليبيين، ولم يعترف بحدود «الولايات» حينها، ورغم ذلك يبقى صلاح الدين «الأسطورة التاريخية» لكثيرين منكم. أما جمال عبد الناصر، فتدخل في الصراع الأهلي اليمني بعد 1962 في سياق مواجهته الإقليمية مع السعودية والبريطانيين (أي المشروع الاستعماري – الصهوني)، ولم يكترث للحدود الوطنية، وأرسل سبعين ألف جندي مصري للقتال في اليمن، فهل يمكن القول إنّ عبد الناصر فعل ذلك بدواعٍ مذهبي؟ أو أنه قاتل الأطفال والنساء والمسلمين؟ ألا يرى كثيرون ممن يهاجمون السيد نصر الله اليوم أن عبد الناصر كان رمزاً تاريخياً مدافعاً عن فلسطين والعروبة (وهو كذلك بلا شك)، كما يرون ذلك أيضاً في صلاح الدين الأيوبي. وحتى حركة حماس «السنية» دخلت في مواجهة عسكرية بوجه فتح «السنية» وقتلت منها العشرات بحجة حماية المقاومة. لا يمكن أن ننكر أن أي حركة مقاومة بوجه إسرائيل ستضطر محقة في لحظة ما (وليس دائماً) إلى تحويل سلاحها بوجه قوى من أبناء جدلتها، وإلى تجاوز مفاهيم السيادة الوطنية وحدود سايس – بيكو، لأن المشروع الأميركي الصهيوني متشعب ومتشابك ومتداخل وليس يتيماً في المنطقة.
أما اليوم، أن يقول السيد نصر الله وبأدلة مفصلة ورؤية واضحة أن بضع مئات من حزبه يقاتلون داخل سوريا في منطقة ملاصقة للحدود اللبنانية بهدف حماية المقاومة ممن باع نفسه للمشروع الأميركي عن عمد أو غباوة، فيصبح هو عدو الأمة بعد 30 عاماً من أسطورته ومعجزته المستمرة في مقاومة إسرائيل ؟! عام 2007 دعا الكاتب الإسرائيلي داني بركوفيتش في كتابه «هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ معركة إضعاف حزب الله» إلى فكرة «شق المنظومة الشمالية»، أي لبنان وحزب الله وسوريا، وهو ما يجري السعي إليه منذ سنتين. فهل من المتوقع إلا أن يرد حزب الله بصهر هذه المنظومة أكثر؟ يمكنكم أن تعترضوا وتنتقدوا وترفضوا موقف الحزب من الأزمة السورية، وتدخله فيها، لكن لا أحد يملك في هذا الشرق المخزون الأخلاقي والتاريخي الكافي لأن يربط ذلك باتهامات مذهبية أو أخلاقية للحزب وسيده، قليل من الخجل أيها السادة.
* باحث ومحلل سياسي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.