خطف جنوداً أميركيين “من أجل لبنان”!

USA - Army 1

ولد سام العود في الولايات المتحدة ونشأ طفلاً وشابّاً في لبنان، وطن أبيه. جعلته الحرب “غريباً” و”نشيطاً” من نوع خاص وخطر. سافر مضطراً إلى أميركا وهناك خطف 11 مجنداً “من أجل لبنان والالتفات إلى مأساته”. أخيراً أصدر كتاباً (For The Love Of Beirut) يروي فيه حكايته “من أجل لبنان والالتفات إلى مأساته” أيضاً.
سيرة سام العود مادة خام. كتبت كما جرت. والتفاصيل دقيقة جداً. كأنه لم ينس شيئاً. وهي، بمعنى ما، اختراق لسائد في استعادة الحرب. لكنه، أيضاً، يركن إليه، أو ينفذ منه. وهو يريد لسيرته، وفق ما قال لـ”السفير”، أن تلفت الانتباه “إلى ما كانت عليه حياة طفل في لبنان خلال الحرب. ولمساعدة الناس على فهم ماذا يعني تدويم الألم والمعاناة المسببة من الحرب”. وهذا الوعي الهادف، أو الموجه، يغلبه السرد في آخر الأمر.

ولد سام في أميركا. لكنه لم يعش فيها غير شهرين. كان والده، توفيق العود، طياراً في الخطوط الجوية الأردنية. رحلته إلى تكساس كانت تدريبية بعد انتقاله إلى شركة “TMA”. رافقته زوجته يستر توباليان. وُلِدَ سام في أيار 1968، وعاد إلى لبنان مواطناً أميركياً. هذه صدفة ربما. لكنها لن تحضر، في حياته، إلا متأخرة. سينقلب العالم بعدها بسنوات قليلة، مع شقيقين هما وسام وداني. وهو أكثرهم نشاطاً وتحركاً، لا يُترك وحيداً، كما يقول في الكتاب، ولا تسلم منه حتى لعبه.

بدأت الحرب وكان عمره سبع سنوات. ظهر السلاح. وصار تساقط القذائف حالة يومية ومتوقعة. لكن ما يبدو فارقاً في وعي سام وأسرته عبور “الحدود” بين جهتي بيروت. كانوا يسكنون في منطقة رأس بيروت، وجداه لوالدته، يعيشون في الجهة الأخرى. صار انتقالهم إليها صعباً. ينتظرون الفرص وتقطع القتال، أو الهدنة المؤقتة. لكن هذه تُعطل في أي لحظة، ويتحول الحي إلى عالم كامل، والحركة خطرة، وأمّه لا تقبل بسهولة خروجه إليه.

عادات
لم يعد المسلح الفلسطيني غريباً على سام، مثلاً. وهم كانوا لطيفين معه ومع رفاقه. كانوا يحدثونهم ويدربونهم على السلاح. سيشكل، لاحقاً، مع رفاقه “زومبي”. وهي عصابة صغيرة. أو عصابتين. إذ في كل مكان، يحضر فيه في يومياته، مثل الحي والمدرسة، يشارك في تشكيل عصابة وتسمى “زومبي”. ولا يكون مستغرباً، في ما بعد، أن يؤمن سلاحاً لمعلمته الأميركية في المدرسة، بعد موجة خطف الأميركيين في بيروت. وهذه بمقياس ذاك الزمن سلوك مرحب به. وهو شهد أيضاً الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وإلى آخره.

هكذا تُولد الطقوس: فهم أصوات الصواريخ والطائرات. هذه عادة سنتوارثها في حروب لاحقة. نرتاح حين نسمع صوت الطائرة يتجاوزنا. واختيار زوايا بعيدة عن الزجاج، أو يُعتقد أنها أكثر أمناً. وتجنب الكلاب الشاردة. وهذه لم تنج من التشوهات. وطبعاً الشموع ودواليب العقص. ولعب الـ”مونوبولي” أو “الريسك”. هذه لوازم. لكن أن تربي، في أقفاص، “هامستر”، وهي نوع من القوارض تشبه الفئران، فهذه حالة فريدة. هكذا، شُغل سام وقريبه سهيل بما يلهيهما عن الدمار. وهذه عادة أيضاً. و”تحولت لاحقاً إلى مشروع تجاري بعد تكاثرها. زرعت، من أجلها، شتل دوار الشمس. لكن دعمها بسماد أضر بالهامستر، فماتوا جميعاً”.

الحرب

لا يمكن تقدير ما بقي من حركة سام الأميركية في ذاكرة الناس، عندنا. لكنه منسي، تقريباً. ليس حزبياً ولم يُحمِّل تصرفه لمنظمة تتبناه. واختطاف ناس وطائرات كان سلوكاً دارجاً، في حينه. وتقييمه، ربما، لا يفيد. وتحديداً في هذه الحالة. اكتشف سام بعد أشهر أن مركز التجنيد غير محروس. وهذا مقارنة بأحوال بلده يصدمه.

كان قريبه يريد أن يوظفه ليخلص منه، تقريباً. فأخذه إلى المركز. لكنه كان يفكر في لبنان. قلبت حياته الأميركية كل شيء. لا أحد، في مكانه الجديد، يهتم ببلاده. وهو كان قد ترك أهله في بيروت. استفاد من جنسيته الأميركية. رفض السفر في البداية. لكن، بعدها، وافق. كان، ربما، أثراً متأخراً لموت جدته في شرق بيروت بعد قذيفة نزلت في بيتها. ومنظر دفن الجثة، ورائحتها، في الحديقة الخلفية لبيت جديه لا يُنسى، في الغالب، في ذاكرة طفل.

كان سام في بيروت، كما في كتابه، يسخر من والده العائد من سفراته. لم يعتد الأب لغيابه المتكرر، على طقوس الحرب وأصواتها. يقابل أولاده وزوجته سلوكه بالسخرية. وهو أقرب إلى الارتباك والخوف. هم، على اعتيادهم، صاروا أكثر تمهلاً وتبصراً. يغفر ألمهم اليومي غيبته واغترابه عن معاناتهم. لكن سام، حين خرج من مكان الألم، التحق بأمكنة لا تشغلها بلاده. كأنها غير موجودة. ليس أمراً هيناً. اشتغل وتعلم. وكانت حرب بلاده موضوعاً للكتابة في دروسه. لكنه بقي معلقاً بذاكرته. هذا ما لا يمكن تجاهله في فهم ما جرى لاحقاً. لكن تفهمه والقبول به ليس بديهياً.

دوناتس للمخطوفين

لم يعامل سام، على ما يروي، مخطوفيه بطريقة سيئة. كان ذلك في 14 أيلول 1988. اشترى، قبلها بيوم واحد، من رجل يعمل في صالة عرض سينمائية قديمة مسدساً و”كلايشنكوف” وستة مخازن ذخيرة بـ350 دولاراً. لبس في نهار العملية بنطلون وكنزة شغله في “بيتزا ليوناردو”. قرر، في طريقه إلى عمله، “أنه الوقت المناسب. الآن أو أبداً. كنت هادئاً. وأفكر في عمق بالحرب وعائلتي. شعرت أنها مهمة ضد الاحتلال الإسرائيلي وكان قد احتل جنوب لبنان”، يروي في كتابه. جمع طاقم مركز التجنيد العسكري في ولاية فرجينيا في غرفة واحدة. أوقفهم، وطلب منهم أن يخلعوا أحذيتهم، فحسب. ثم ضيّفهم القهوة و”الدوناتس”. وتواصل مع قياداتهم. لم يطلب غير أمر واحد: الحديث عن لبنان وحربه وطلب السلام في بلاده في الإذاعات المحلية. كان يحمل معه راديو. يفرج عن معتقل بالتزامن مع كل إعلان يُبث. يقول سام، في نصه، إن بعض معتقليه عبروا عن تفهمهم لما تعانيه بلاده. وهو لم يكن يريد أن يكون مثل غيره. “يتركون لبنان ولا يسألون. لم أستطع فعل ذلك. كان علي أن أعمل لألفت الانتباه إلى حالة لبنان. لا أعرف ماذا فعلت الحكومة الأميركية، بعدها. لكن أشخاصاً لا يزالون يخبرونني، حتى يومنا هذا، أن ما فعلته جعلهم أكثر إدراكاً لما يحصل”، كما قال لـ”السفير”.

سلم سام نفسه، أخيراً. تم كل شيء بهدوء. ما طلبه حصل. بقي أن يضمن حضور أهله إلى أميركا. وهذا سيتم لاحقاً خلال فترة سجنه. حكم في قضايا عديدة. تقلصت الـ124 سنة، كما جاء في حكمه، إلى 25 سنة. لكنه كان حكماً قاسياً. إذ أن المعاينة النفسية أثبتت اصابته بـ”Post Traumatic Stress Disorder” (اضطراب ما بعد الصدمة). لم تأخذ المحكمة بالتقرير الطبي. انتقل بين سجنين. ولم يقض من سنواته أكثر من ست سنوات. ساهم حسن سلوكه، وشهادات مَن تعاملوا معه، في تقليص حكمه. عمل في المطبخ، ولاحقاً في التمرينات الرياضية. «لكن، حقاً، كانت سنوات سجني أسهل، مقارنة بحياتي في بيروت». فكر مليّاً في سجنه. وكان زملاء السجن يعرفونه من التلفزيون. وسماه بعضهم لبنان. وكانوا يعتبرونه بطلاً. لكن الحرب لحقت به إلى سجنه. كان سماعه صوت طائرة تعبر فوق السجن كافياً ليسقط في أرضه.

الكتابة

يعمل سام، منذ خروجه من السجن في العام 1994، مدرباً رياضياً. وصار، في العام 2002، يملك عمله الخاص في المجال نفسه. تقاعد والده. أما شقيقه داني وأمه فبقيا في أميركا. وتزوج واشتغل وسام في دبي. وهو يشارك زبائنه قصصه. “يحبون سماعها”. وهم كانوا، على ما يقول لـ”السفير”، من مشجعيه على الكتابة. تمكن بمساعدة برندا جبرال، وهي مدرسة متقاعدة للغة الانكليزية، من تحويل قصصه إلى كتابة. استمرت هذه العملية نحو سنة. “صرت، عبر كتابتها، قادراً على حكاية القصة الكاملة لما جرى معي. ليس في عيشي طفلاً في بيروت فحسب، بل في عملية الخطف أيضاً”. لكن الكتابة لها وظيفة أخرى. “إنها شكل من التحرر بالنسبة لي. يعاني أغلب اللبنانيين من اضطراب ما بعد الصدمة، لكنهم، في الغالب، لا يعملون شيئاً من خلاله. وهذه كانت طريقتي. وربما، حين يُقرأ الكتاب، قد يساعد بعضهم على معالجة الخوف والقلق اللذين لا يزالان يعطلان حياتهم”.

عاصم بدر الدين –
صحيفة السفير اللبنانية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.