خواطر بمناسبة إنعقاد الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة

موقع قناة الميادين-

حسن نافعة:

الهدف من إصلاح الأمم المتحدة لا ينبغي أن يقتصر على إقامة نظام للأمن الجماعي العالمي أكثر فاعلية من النظام الحالي، إنما أن يمتدّ ليشمل تأسيس منظمة ديمقراطية عالمية تتمتع أجهزتها وفروعها بسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية حقيقية.

تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة دورة اعتيادية سنوية في مدينة نيويورك، تبدأ يوم الثلاثاء من الأسبوع الثالث من شهر أيلول/سبتمبر من كلّ عام، وتمتدّ أعمالها في العادة حتى قبيل انعقاد الدورة التالية، ويحرص عدد كبير من ملوك ورؤساء وأمراء ورؤساء وزارات ووزراء خارجية الدول الأعضاء على إلقاء كلمات في جلساتها الأولى، لشرح وتحديد سياسات بلادهم ومواقفها إزاء مختلف القضايا العالمية والإقليمية.

وقد بدأت الدورة الحالية للجمعية العامة، وهي الدورة رقم 77، في موعدها المحدد سلفاً، أي يوم الثلاثاء الموافق 20 أيلول/سبتمبر الحالي، بحضور نحو 155 شخصية قيادية تنتمي إلى معظم دول العالم.

ورغم أنَّ هذه الدورات بدأت تأخذ شكلاً روتينياً لم يعد يلفت الانتباه ولا يتوقع أحد أن يحمل معه أي جديد مثير، فإنَّ الدورة الحالية تبدو مختلفة عن سابقاتها، وذلك لسببين رئيسيين مترابطين:

الأول: أنها تعقد وجهاً لوجه هذه المرة بعد فترة انقطاع بسبب تفشي وباء كوفيد 19، كانت الاجتماعات تجرى خلالها عبر تقنيات التواصل غير المباشر. ولأنَّ الاجتماع السنوي لهيئة تضمّ في عضويتها كلّ دول العالم تقريباً، يكاد يكون هو الفرصة الوحيدة التي تتيح لمعظم قادته الحضور معاً تحت سقف واحد، فمن الطبيعي أن يتحول إلى مناسبة فريدة لعقد لقاءات جانبية بين شخصيات قد يصعب عليها، لسبب أو لآخر، الحضور معاً في أي مكان آخر في العالم. من هنا، حرص عدد كبير منها على الحضور والمشاركة بأنفسهم في الدورة الحالية.

الثاني: أنّها تُعقد بعد اندلاع أزمة هي الأخطر منذ تأسيس الأمم المتحدة، ليس لأنها تدور بين قوى عالمية كبرى فحسب، ولكن لأن تطوراتها تهدد أيضاً باندلاع حرب عالمية ثالثة، فلم يكن من قبيل الصدفة أن يتزامن انعقاد هذه الدورة مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دخول الأزمة الأوكرانية مرحلة جديدة قابلة لأن تستخدم فيها كلّ أنواع الأسلحة المتاحة، بما فيها الأسلحة النووية، ما شكّل بالنسبة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تحدياً هائلاً من شأنه أن يضع هيبة الأمم المتحدة ككلّ تحت اختبار قاسٍ.

حين صاغ الرواد الأوائل ميثاق الأمم المتحدة، لم يكن همهم الأول إقامة مؤسسة عالمية تدار بطريقة ديمقراطية، ولكن إيجاد آلية فعالة قادرة على حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع اندلاع حرب عالمية ثالثة.

ولأن هؤلاء الرواد افترضوا أن التحالف الذي تشكَّل بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سيستمر بعدها، فقد بدوا حريصين على أن يكون لهذه القوى مجتمعة دور أساسي في قيادة هذه الآلية وتشغيلها، وذلك من خلال مجلس للأمن تنفرد فيه بشغل المقاعد الدائمة والتمتّع بحق الفيتو، تم تزويده بصلاحيات وسلطات واسعة تمكنه من إصدار قرارات ملزمة وواجبة التنفيذ، وخصوصاً حين يتصرف وفقاً للفصل السابع من الميثاق.

أما الجمعية العامة، وهي الفرع الوحيد الذي تُمثل فيه جميع الدول الأعضاء، ويفترض أن تمثل السلطة العليا في المنظمة، فقد رأى هؤلاء الرواد أن يقتصر دورها على إصدار التوصيات في المسائل الاقتصادية والاجتماعية، ولم تمنح أي سلطات حقيقية، فيما عدا بعض النواحي المتعلقة بإدارة المنظمة الدولية، من قبيل: إقرار مشروع البرنامج والميزانية، والاشتراك في انتخاب الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، والمشاركة في تعيين قضاة محكمة العدل الدولية…

ولأنَّ تشغيل نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة توقف على تحقيق التوافق بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فقد كان من الطبيعي أن يصاب هذا النظام بما يشبه الشّلل التام بمجرد انقسام القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين متصارعين؛ فبعد قيام حلف الناتو عام 1949، ثم حلف وارسو عام 1955، أصبح لكل من هذين المعسكرين نظام أمن جماعي خاص به، ما أدى إلى تجميد نظام الأمن الجماعي العالمي.

وحين اندلعت الحرب الكورية عام 1950، وهي الحرب التي عكست انقسام العالم إلى معسكرين متصارعين، وأيضاً انهيار نظام الأمن الجماعي الدولي، جرت محاولة لإقامة نظام بديل يقوم على نقل بعض صلاحيات مجلس الأمن إلى الجمعية العامة، من خلال قرار أطلق عليه اسم “الاتحاد من أجل السلام”، واعتمدته الجمعية العامة في ذلك العام، غير أن هذه المحاولة لم تحقق إلا نجاحاً محدوداً، لأن نقل الصلاحيات تم من جهاز يملك سلطة إصدار القرار الملزم إلى جهاز لا يملك إلا سلطة إصدار توصيات غير ملزمة.

وباستثناء الدور الاستثنائي الذي قامت به الجمعية العامة إبان أزمة السويس عام 1956، حين اتخذت قراراً بتشكيل قوات طوارئ دولية للإشراف على انسحاب القوات المعتدية على مصر، لم يفلح قرار “الاتحاد من أجل السلام” في إضفاء أهمية تُذكر على دور الجمعية العامة في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين، ومن ثم تحوَّل الفرع الذي يفترض أن يكون أعلى سلطة في الأمم المتحدة إلى منتدى عالمي للنقاش في المسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المسائل التي لا ترتبط مباشرة بقضايا السلم والأمن في العالم، ولم يقم بأي دور يذكر في التأثير في تحولات النظام الدولي.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة كان 51 دولة عند تأسيسها عام 1945. أما الآن، فقد ارتفع ليصل إلى 193 دولة تمثل كل سكان الكرة الأرضية تقريباً.

ورغم حرص الميثاق على تحديد عدد المندوبين الذين يحق لكل دولة تفويضهم للمشاركة في أعمال الجمعية العامة بخمسة مندوبين فقط، إعمالاً لمبدأ المساواة السيادية بين الدول، فإنَّه أجاز لكلّ دولة ضمّ أيّ عدد تراه من الخبراء والمستشارين.

ولأنَّ الدول الأعضاء تتفاوت كثيراً، ليس من حيث قدراتها وإمكاناتها ومواردها المادية والبشرية فحسب، إنما أيضاً من حيث درجة اهتمامها بأنشطة الأمم المتحدة، فمن الطّبيعي أن يتفاوت العدد الإجمالي لوفود الدول الأعضاء المشاركة في أعمال الجمعية العامة، إذ يتراوح بين 5 و100 شخص أو أكثر.

وإذا افترضنا جدلاً أنَّ متوسط العدد الإجمالي لوفود الدول المشاركة في كل دورة من دورات الجمعية 20 شخصاً، فلك أن تتخيَّل عزيزي القارئ كمية الأوراق التي يمكن أن تصدر سنوياً عن محفل عالمي للنقاش، يشارك فيه آلاف الأشخاص من كل المستويات والتخصصات، وتطرح فيه مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية التي تواجه العالم بأسره، والمدرجة على جدول أعماله من جانب 193 دولة عضواً!

لقد اعتاد المجتمع الدولي أن يستمع إلى ضجيج عالٍ يصل إلى حد الصخب ينبعث كلّ عام من داخل أروقة الجمعية العام للأمم المتحدة، واعتاد أيضاً أن يتابع ما يصدر عن هذه الجمعية وعن اللجان المنبثقة منها من أوراق تزن مئات الأطنان سنوياً، يندر أن نعثر فيها على جديد يستحق الانتباه.

ولكن المفارقة هذه المرة تكمن في أنَّ الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة تُعقد في وقت يتجه العالم نحو كارثة تهدد البشرية كلّها بالفناء. ولأنَّ الفارق بين ما يقوم به فعلاً جهاز دولي مسؤول يفترض أن يؤدي دور “البرلمان العالمي”، وما ينبغي له أن يقوم به في تلك اللحظة الاستثنائية من تاريخ العالم، يبدو شاسعاً، أظنّ أنّ الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة ستذكرنا هذه المرة ربما أكثر من أي دورة أخرى سابقة بمدى الترهل الذي أصاب مؤسسات النظام الدولي ككل، وبالحاجة الماسة إلى إصلاحها.

ورغم ما يوليه البعض من اهتمام كبير بإصلاح مجلس الأمن، لأن تشكيله لم يعد يعبر عن موازين القوة السائدة في النظام الدولي الراهن، فإنَّ إصلاح مجلس الأمن، بافتراض أنه أمر يمكن القيام به بشكل منفصل، لا يكفي وحده لإحداث نقلة نوعية في التنظيم الدولي.

لذا، يجب أن يكون الإصلاح المطلوب شاملاً، وأن يمتد إلى منظومة الأمم المتحدة، وليس إلى منظمة الأمم المتحدة فحسب، بمعنى أنه يجب أن يمتدّ ليشمل، إلى جانب الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة بكل أجهزتها وفروعها، إعادة صياغة لطبيعة العلاقة التي يجب أن تربط الأمم المتحدة، كمنظمة سياسية وأمنية عالمية، بغيرها من المنظمات الدولية الأخرى، الحكومية منها وغير الحكومية، العالمية منها والإقليمية، العامة منها والمتخصصة.

هذا يعني أن الهدف من هذا الإصلاح لا ينبغي أن يقتصر على إقامة نظام للأمن الجماعي العالمي أكثر فاعلية من النظام الحالي، إنما أن يمتد ليشمل أيضاً التأسيس لمنظمة ديمقراطية عالمية تتمتع أجهزتها وفروعها بسلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية حقيقية، وتُبنى على أساس الفصل والرقابة المتبادلة بين هذه السلطات.

حين تتحوّل الجمعية العامة إلى برلمان عالمي قادر على ممارسة دوره، ليس كسلطة تشريعية يمكنها إصدار قوانين قابلة للتطبيق وواجبة الاحترام فحسب، ولكن أيضاً كسلطة رقابية قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية التي يجسدها مجلس الأمن، سيكون المجتمع الدولي قد قطع خطوات تؤهّله للانتقال من “الحالة الطبيعية” التي هو عليها الآن، وهي حال تتسم بالفوضى الشاملة الناجمة عن الاستخدام العشوائي لمنطق القوة، إلى “حالة المجتمع”، وهي حال تتسم بوجود سلطة عليا فوق الدول قادرة على التعبير عن مصالح البشرية ككل وأمنها، وعلى فرض إرادتها على الجميع، إذا جاز لنا استخدام مصطلحات سبق أن صكّها توماس هوبز الفيلسوف البريطاني الشهير منذ القرن السابع عشر، غير أن هذه الخطوة المهمة والضرورية ما تزال، للأسف، حلماً بعيد المنال.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.