خيارات أوباما الخارجية بين «الشرطي» و«المنارة»

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
حسام مطر:
تبدأ السياسة الخارجية لأي دولة من خلال رؤية النخبة الحاكمة للعالم، ومفهومها لدورها فيه، وثقافتها الإستراتيجية، وتجربتها التاريخية. وهذه كلها تتعرض للتغيير النسبي مع الوقت بحسب التطورات الاجتماعية وموازين القوى الداخلية وتحوّلات النظام السياسي. لطالما عانت الولايات المتحدة من إشكالية تعريف دورها في العالم، بفعل مزيج من الغطرسة، والغرور، والانبهار بالذات، والنجاحات، وحتى المآسي التي يتشكل منها «العقل الأميركي». فهل تبني واشنطن سياستها الخارجية على أساس أنّها شرطي العالم، أم قوة إمبراطورية، ام أنّها منارة تجتذب الأتباع؟ هذه الإشكالية واجهت أوباما منذ بداية حملته الانتخابية الأولى وستستمر الى حين نهاية ولايته الثانية التي حظي بها منذ أيام. يحتدم هذا النقاش في عهد أوباما بفعل الحاجة الأميركية الملحة الى التقشف ولا سيما في الميزانية العسكرية، في زمن تتصاعد فيه قوة الصين العسكرية والاقتصادية، والتهديد النووي الإيراني، وانبعاث قوى «لا دولتية» (non- state actors) ذات تصميم وخطورة لا يمكن التعامل معها بوسائل الحرب التقليدية.
عارض المحافظون (بمن فيهم مرشحهم الخاسر رومني) بالإضافة للمؤسسة العسكرية الأميركية خطة أوباما للتقشف في الميزانية العسكرية، وإن كانت معارضة العسكر بديهية فإنّ موقف المحافظين نابع من طموحهم للعب دور «شرطي العالم». وزير الدفاع ليون بانيتا اعتبر أنّ الأمن القومي هو «قوتنا العسكرية» قائلاً «ندرك انّ الموارد محدودة وعلينا التعامل مع هذه التحديات، لكن لا اعتقد ان علينا الاختيار بين امننا القومي والمسؤولية المالية»، فيما يرفض توماس دونيللي (محلل سياسات امنية ودفاعية لدى مؤسسة «أميركان إنتربرايز» المحافظة) هذا التقليص كون الجيش الأميركي كان يقوم بجهد متزايد بميزانية أقل منذ نهاية الحرب الباردة، إذ إن مقارنة الميزانية الدفاعية مع نسبة الثروة الأميركية تظهر أن هذه الميزانية لا تزال تتناقص منذ تلك الفترة. إن خفض النفقات العسكرية سيترك عواقب يمكن قياسها بتراجع القوة والنفوذ والأمن الأميركي. يحاجج أنصار هذا الرأي بأنّ ما تقوم به الولايات المتحدة ليس تحملاً لأعباء الآخرين بل أنّها تخدم «الخير العام العالمي» وذلك لأنّ التحالفات الأمنية الأميركية تنطبق عليها شروط «الخير العام».
يتخوف بعض الأميركيين أن يكون التقشف في الميزانية الدفاعية غير ممكن، لأسباب عدة كما يراها مايكل اوهانلون: نظام رعاية العسكريين أصبح مكلفاً جداً في السنوات الأخيرة لا سيما مع استدعاء الاحتياط وأعداد الجرحى. ثانياً هناك كثير من النفقات العسكرية العادية سترتفع أكثر من التضخم باعتبار أنّ الإنفاق العسكري هو جزء من الاقتصاد. وتشمل هذه النفقات الرعاية الصحية للعسكريين (50 مليار دولار سنوياً)، وجذب قدرات بشرية جديدة الى الجيش برواتب منافسة. كما أنه من الصعب العودة الى خفض شراء الأسلحة كما فعل كلينتون إذ إنه استفاد من البرامج العسكرية والمعدات التي نتجت من سياسة ريغان التسلحية خلال الحرب الباردة وهي لم تعد متوافرة اليوم إذ «إننا لا نملك معدات حديثة الصنع، يعتمد عليها وموثوقة». لذلك وافق البعض، كستيفين هادلي على الاقتطاعات بشرط أن تكون حذرة وبحسب طبيعة التهديدات والأولويات. لذا يجب الحذر من القيام بالاقتطاع من الحسابات غير الدفاعية (برامج وزارة الخارجية) لصالح الميزانية الدفاعية، لا سيما أن الولايات المتحدة تحتاج حالياً اكثر الى الأدوات غير العسكرية في سياستها الخارجية كما في العراق وأفغانستان واليمن والصومال «حيث نقوم بتجهيز وتدريب ودعم القوات المحلية، مشاركتهم الاستخبارات، ربما نستخدم بعض القدرات الجوية والقوات الخاصة. هذا هو النموذج الذي سنخوض من خلاله الحرب خلال السنوات العشر المقبلة».
في المقابل، حسم اوباما خياره في المقلب الآخر، الولايات المتحدة تريد قيادة العالم ولكن ليس تأسيس إمبراطورية، تقديم النموذج وليس الشرطي، المغنطيس وليس المطرقة، وإلا فإنّ الولايات المتحدة ستقع فريسة «فرط التوسع الإمبريالي». ربما يكون جوزيف ناي أفضل من لخص الخطوات المطلوبة، بالإضافة لتقليص الإنفاق العسكري، الحد من التدخل العسكري البري، الامتناع على سياسة «بناء الدول»، نقل المسؤوليات الى الحلفاء، إلا أنّ البداية تكون بإدراك ان قوة وتأثير أميركا في الخارج تبدأ من الخطوات التي نتخذها في الداخل، او ما يسميه أوباما «بناء الأمة الأميركية». يعتقد ناي انّ الولايات المتحدة تختلف عن بريطانيا بعدم رغبتها في بناء إمبراطورية، بل بأن تكون «مدينة مضيئة من على تلة»، لذا إنّ الإستراتيجية الذكية لحفظ قوة اميركا ودورها العالمي يجب أن تستند الى صياغة السياسة الخارجية بشكل «يناسب الملابس التي نملكها» كما يقول ناي. يتوافق كريستوفر بريبل (نائب مدير الدراسات الخارجية والأمنية في مؤسسة Cato) مع ناي بأنّ تضخم الميزانية الدفاعية ناتج من جزء منه من الاتكالية الأمنية عند حلفاء واشنطن التي كانت توجه موارد متزايدة لأداء دور الشرطي، «لذا فإن تراجع أميركا عن بعض أدوارها سيجبر حلفاءها على تحمل مسؤوليات متزايدة تجاه أمنهم»، وهو ما عبر عنه دوف زاخيم (مسؤول كبير سابق في البنتاغون) بالقول أثناء تدخل الناتو الأخير في ليبيا: «فلندع الآخرين يتحملوا كل الأعباء، ولو لمرة على سبيل التغيير فقط».
يتم التعبير عن سياسة أوباما هذه «بالقيادة من الخلف» كما في ليبيا وسوريا، وقد انتجت هذه المقاربة هجوماً منسقاً وشرساً من الديموقراطيين، ومن جون ماكين وسارة بايلن وجون بولتون، إذ اتُهم أوباما باتباع باريس وأنّ عملية ليبيا كانت كارثة إستراتيجية. إلا أنّ ديفيد رمنيك (كاتب في مجلة «نيو يوركر») انتقد الجمهوريين إذ إنّهم في انتقادهم لسياسة أوباما الخارجية «لا يركزون على نتائج هذه السياسة بل على التشديد على قوة أميركا والتأكيد على مجدها». ويكمل رمنيك بأنّ «أوباما ليس أول رجل دولة يدرك أن من الأسهل تحقيق النصر إذا لم تحتج للإعلان بصوت عالي عن انتصارك». بناء على ما تقدم، لن تشهد سياسة أوباما تجاه الشرق الأوسط تحولاً بارزاً، سيبقى الحلفاء في الواجهة (تركيا ــ الخليج)، مع محاولة تعميق التحالف مع الإسلاميين، واعطاء ضمانات متزايدة للأمن الإسرائيلي مقابل الإمساك بقرارها الإستراتيجي، الى جانب تشديد الخناق على إيران عبر العقوبات والعزلة وبناء حلف «سني» موازن لها، والاستمرار باستنزاف النظام السوري والعمل على قضم سلطته تدريجياً وبحذر. إلا أنّ عرضاً أميركياً لتسوية كبرى مع إيران يبدو مرجحاً، إما من باب إيجاد مخرج للأزمة أو من باب الفرصة الأخيرة لإيران قبل الانخراط في عمل عسكري ضدها، إلا أنّ هذا العرض لن يتبلور قبل شهور، ولن يكون معزولاً عن تسوية الأزمة السورية.
يعتقد نوام تشومسكي أنّ معضلة واشنطن الحالية في الشرق الأوسط هي أنّ «تراجع قوتها لم ينتج تراجعاً في طموحاتها»، إذاً المشكلة عند الأميركيين هي في تشخيص أهدافهم ومصالحهم في الشرق الأوسط، كون واشنطن تنكر وتتجاهل حقوق شعوب المنطقة في السيادة السياسية والاقتصادية والخيار الثقافي، أي أنّ المشكلة ليست فقط في السياسات والأساليب. فالمشكلة ليست فقط في سياسات بوش العنيفة «الصلبة»، بل حتى في سياسات أوباما «الناعمة»، أي في «الرؤية النفقية» التي لا ترى في الشرق الأوسط أكثر من خزان للنفط. فقدت واشنطن حلم «الإمبراطورية» في الشرق الأوسط، واليوم تتنازعها رؤية «الشرطي» ورؤية «النموذج الملهم»، حتى ذلك يبدو عصياً بفعل دماء أطفالنا الموسومة «كالحنة» على يدي أميركا. هنا تحتاج واشنطن إلى قوة اخرى تشكل انعكاساً لها او ظلاً يخفي الملامح القبيحة، لذا تتقدم تركيا اليوم، تارة «كالشرطي»، كما في سوريا وليبيا، وتارة «كالنموذج الملهم» في مصر وتونس وغزة.
* باحث في العلاقات الدولية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.