درس صبرا وشاتيلا

موقع العهد الإخباري-

أحمد فؤاد:

من المؤكد أن الأحداث التاريخية هي أكثر ما يدعو الأمم الحية إلى التوقف قليلًا بغرض فحص ما كان، ومراجعة النفس والتصرفات، والبناء عليها لما سيكون. ولعل حالة الأزمة ـ بالذات ـ وتزامنها مع المناسبة التاريخية وضغطها على الوعي العام، مع ثقلها الشديد على الذاكرة الجمعية، هي اللحظة التي تتطلب وقفة مشروعة وأسئلة لا تزال بلا إجابات.

ولا تعود الأمم الحية إلى الماضي بأغراض المحاسبة والتفجع، غالبًا، لأن الماضي وفوق أنه غير قابل للاستعادة، فإنه من المستحيل تعديل مساره أو وقائعه، بل تعود للقراءة والتعلم، ثم وضع اليد على موطن الخلل، ووضع الأقدام على أول طريق الخروج من حالة الأزمة الراهنة، والزحف، ولو نقلة بعد نقلة، بعيدًا عن حافة الخطر.

وهذه هي بالضبط ميزة قراءة التاريخ الكبرى، وهي أنها تمنح الفرد والأمة الفرصة لعدم تكرار نفس المقدمات المؤدية للنتائج الكارثية، وتجنب إعادة تجربة حصاد المر والدم، والابتعاد عن مزالق الزلل، ومنح النفس فرصة السير بهدوء فوق حبل مشدود، تنفتح من تحته بوابات الجحيم وترتفع منه نيران الهلاك.

لم يكن مستغربًا، ولبنان يمر بهذه اللحظة الفارقة، أن يخرج الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ويذكر بالمأساة الأعمق في وجه لبنان بالتاريخ المعاصر، مذابح صبرا وشاتيلا 1982، والتي تتزامن بالضبط مع الاجتياح الصهيوني للبنان، وتقريبًا مع انطلاق المقاومة الإسلامية الباسلة، كمفتاح للحديث عن شروط مجاوزة الظرف الحالي، وليس حديثًا من باب الوقوف على أطلال الماضي، والتباكي عنده.

كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، بكل تفاصيل بشاعتها التي تفوق كل حد، تعبيرًا عميقًا ونتيجة حتمية لمجتمع يواجه عدوه محرومًا من السلاح، مجتمع خانته الإرادة الوطنية، فوقع في شرك عدو الخارج وخونة الداخل. كانت المجزرة أشبه بـ “ذبح دواجن”، لضحايا قتلوا بدم بارد محرومين حتى من حقهم في الصراخ، وهي قبل أي شيء، قضية مستمرة، وليست حدثًا انتهى وقته ونفدت صلاحية الحديث عنه.

العام ذاته الذي شهد المجزرة الأكثر ترويعًا في الصراع العربي الصهيوني، شهد أيضًا ولادة أشرف ظاهرة عربية في الزمن المعاصر، شهد خروج حزب الله كرد كامل شافٍ وافٍ على الاجتياح الصهيوني للبنان، في وقت كانت كل القوى العربية في صراعات الديكة ضد بعضها البعض، القاهرة ضد بغداد، وطرابلس الغرب ضد الرياض، وكان السلاح هو إجابة اللحظة الصحيحة والوحيدة.

ويمكن، بكل أمانة وتجرد، رد اللحظة العربية الأهم إلى العام 1982، حين انطلق حزب الله، كمقاومة إسلامية فريدة في ظروف ولادتها، متفردة في إيمانها وقدرتها، لتتحول من حركة مقاومة مطلوبة إلى معجزة عربية ولدت على أرض لبنان، واستطاعت مواجهة تحدياتها كافة، والعبور إلى عام 2022، بعد 4 عقود بالضبط، كقوة كفوءة وقادرة على رسم ملامح المستقبل في بلدها، ومنطقتها كلها.

كان المطلوب من الحزب أن يحول العقيدة أولًا إلى رسالة تعي ظروف مجتمعه وحدود دوره، ثم تحويل الرسالة بدورها من مبادئ إلى قواعد عمل ومرتكزات حركة، وأن يحمل خطابًا جامعًا يستطيع تحويل الإيمان من فعل فردي مناطه القلب، إلى حيوية تدفع وتلهم المجتمع والحاضنة الشعبية من حوله إلى العمل الدائم، والعمل القادر، وبقدر ما كان الخطاب معبرًا عن تحدي لحظة الأزمة والواقع كله، كان قادرًا على فتح طريق النضال الطويل والشاق، انطلاقًا من صدق الدعوة إلى شرعية حمل الراية الوطنية والدفاع عنها.

اليوم أيضًا مثل الأمس، والإجابة التي تختصر كل تحديات لبنان هي القوة، القوة أمام عدو مغتصب لا يفهم غيرها، ولا رادع لشروره سواها، والشرعية التي يحمل أمانتها حزب الله هي الترجمة العملية للصراع القائم حول حقل كاريش للغاز، فكما أن الحزب من واجبه حماية الوطن، فأولى أولوياته هي حماية المجتمع المهدد بالتصدع، والحفاظ على الثروات الطبيعية للبلد من القرصنة الصهيونية.

ويدرك أي متابع للأزمة اللبنانية الحالية، مهما كان بعيدًا، أنها أزمة لم تعد تصلح فيها ولها المسكنات، لا قرض من صندوق النقد الدولي قادر على جبر العجز، ولا تعيين حكومة أو رئيس جديد يستطيع تغيير الواقع الصعب كله، وأنه كما صارت الأزمة جذرية عميقة، فإن الحل المطلوب هو الآخر هائل، والعلاج الناجح طريق صعب مليء بالمشاق والعقبات.

وأول وصفة لعلاج ناجع ونهائي للأزمة الاقتصادية هو البحث عن مصادر الثروة الوطنية، واستغلالها أفضل استغلال، ووقف التدهور الحاصل حاليًا على صعيد الموازنة وعجز الدولة عن الوفاء بمتطلبات مواطنيها، وهو المدخل الأول لشيطان التفكك والتدمير الذاتي للمجتمعات.

تُركت الأزمة اللبنانية الاقتصادية كثيرًا، ونفخت فيها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني سمومهما في نارها، حتى باتت خيطًا ثقيلًا ضمن جديلة الحصار الاقتصادي للبنان، وطبعت آثارها الاجتماعية الحادة على المجتمع والشارع، واخترقت كل ما خططت وأرادت أن تخترقه من نخب وصناع رأي وسياسيين.

والأخطر، أنها وضعت البلد كله في تيه ممتد، من الفقر والعجز والحاجة الشديدة، وكشفت ظهره للاستهداف الطائفي القادم من السفارات، ولا تزال تزكي صراعات حادة، تجعل نهاية الطريق إما مهلكة في هذا التيه، أو انتحارًا جماعيًا طوعيًا في العراء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.