ردع تموز ومُسيرّات كاريش ترسم المسارات في لبنان والإقليم

جريدة البناء اللبنانية-

خضر رسلان:

تجمع القراءات المختلفة على انّ جذور حرب وعدوان تموز عام 2006 على لبنان وأسبابها ترجع الى أمرين لهما أبعاد استراتيجية هما انتصار أيار عام 2000 الذي أظهر مقاومة حزب الله نموذجاً مشرقاً، في حين يعكس نموذج أوسلو الضعف والفشل في تحقيق أدنى مقدمات تحصيل الحقوق المغتصبة. ولكي لا تصبح ثقافة الانتصار الذي حققته المقاومة نموذجا يُحتذى به خاصة بعدما استطاعت إدخال معايير ومفاهيم جديدة في قاموس الصراع تتعلق بالتوازن والردع بعدما جهد العدو «الإسرائيلي» لسنوات على تعزيز تفوّقه، وترسيخ مقولة إنه يملك جيشاً لا يُقهر…
بعد استحالة تنفيذ القرار الدّولي 1559 الذي يهدف الى نزع سلاح المقاومة بالقوة وهو القرار الذي تمّت صياغته بحسب ما كشف عنه الصحافي سايمور هيرش في صحيفة «نيويوركر» من خلال جهد مشترك أميركي فرنسي «إسرائيلي» حيث جرى العمل عليه وإصداره في مجلس الأمن في أيلول 2004، ثم العمل على تنفيذه بعد ذلك في أكثر من محطة أهمّها خلال عدوان تموز 2006 والهدف بزوغ «شرق أوسط جديد يولد من رحم الأزمة اللبنانية»، كما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية كونوليزا رايس، ويعني شرقاً أوسط خالياً من أيّ مقاومة، هذا فضلاً عن السعي الى إعادة هيبة صورة الجندي «الإسرائيلي» التي أصابها الوهن والضعف. إلا انّ نتائج الحرب عزّزت صورة الهشاشة التي تمدّدت الى صورة الكيان برمّته وظهر بوضوح أنه أوهن من بيت العنكبوت …
الى ذلك فإنّ مسار الأحداث وتداعياتها أسّست لمسار مختلف وقد ظهرت ملامحها في مجريات مفاوضات ملف الترسيم البحري الذي أبرمه لبنان قبل أيام مع الكيان الصهيوني ويمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ المقاومة أثبتت جدواها في قدرة الشعوب على فرض إرادتها، ونجحت في قلب معادلة كيّ الوعي ضدّ شعوب المنطقة التي نادى بها أركان العدو وجعلتها معادلة «كيّ وعي للإسرائيليين أنفسهم» وهم الذين باتوا بل اعتادوا اللجوء الى الملاجئ بعد فشل منظومة الدفاع الاعتراضية وسقوط مقولة الردع التي طالما تبجّح بها كيانهم الغاصب.
2 ـ مُسيّرات كاريش لم تكن مجرد استعراض تقني لقدرات هجومية باتت تمتلكها المقاومة بل إنّها عكست إرادة وجهوزية عالية حاضرة لتنفيذ ما يطلب منها من مهمات يعرف العدو «الإسرائيلي» قبل غيره المهارة والحنكة السياسة العالية التي تمتلكها قيادة المقاومة وقدرتها على التحكم في مسار الأمور فكان خياره الانكفاء والتراجع بانتظار أن يسعفه الموفد الأميركي هوكشتاين.
بناء على ما تقدّم وعلى اثر المتغيّر الاستراتيجي الناتج عن خسارة العدو لزمام المبادرة التي طالما تبجّح بها، وأدّى الى امتلاك المقاومة قوة الردع التي تكبح جماحه وأثمرت العديد من الإنجازات؛ منها توقيع اتفاقية الترسيم البحري بين لبنان والكيان الغاصب ورسم مسارات جديدة في المنطقة والإقليم يمكن قراءتها وفق التالي:
1 ـ الخلاصة الأولى: سقوط سياسة النعامة واسترضاء الولايات المتحدة من أجل تحصيل الحقوق التي راهن عليها الكثير من الأنظمة والمكوّنات وطبقات لا يُستهان بها من نخب ومثقفين. فالتجربة أثبتت انّ السياسة الأنجع والأفضل للوصول الى الأهداف يكون في امتلاك القوة والاقتدار والثبات في ظلّ عالم قائم على النزاعات والمصالح ولا يحترم الا الأقوياء.
2 ـ معادلة «كاريش» التي أرستها المقاومة، رسمت خطوطاً جديدة في الموازين الاستراتيجية الإقليمية، أنهت به ما كان يُعرف بالتفوّق «الإسرائيلي» وساهمت في تعزيز ثقافة المقاومة لا سيما في فلسطين التي يخشى غاصبوها من استنساخ تجربة كاريش في المواجهات المقبلة حيث مصافي الغاز والنفط وهو ما يُعتبر ذروة انقلاب الموازين والناتج عن تداعيات امتلاك القدرة وبناء القوة.
3 ـ وحيث انّ الأولوية الأميركية المستجدة تتركز حول تأمين مصادر الطاقة لحلفائها الأوروبيين لا سيما منها الغاز في مواجهة روسيا، وحيث انّ أميركا تنتهج بحسب ادّعائها المذهب البراغماتي وفق المنظور الخاص بهم والقائم على أولوية تأمين مصالحهم، وحيث أنّ استخراج الغاز من المتوسط وتصديره الى أوروبا يتوجب هدوءاً واستقراراً دأبت على تعكيره وخرقه في ما سبق من الأيام فإنه وبناء على المتغيّر الاستراتيجي وتبدّل الأولويات؛ هل تلجأ الولايات المتحدة الأميركية كما فعلت سابقاً مع الكثير من الدول الى التخلي عن أدواتها، لا سيما في الداخل اللبناني بعد انتهاء دورهم الوظيفي الذي كان منوطاً بهم، والمتعلق بشكل أساسي بالمساهمة في مشروع إسقاط المقاومة وبيئتها؟ وهل تنسحب البراغماتية الأميركية والحاجة الى الاستقرار الى غضّ النظر وعدم عرقلة تبوؤ رئاسة الجمهورية اللبنانية شخصية وطنية منسجمة مع المقاومة؟
من المعروف والشائع انّ المعايير الأميركية ترتكز على نظرية الغاية تبرّر الوسيلة وحيث انّ الغاية هي تحصيل الغاز ومواجهة القيصر الروسي وتحجيم دوره وعزله، استناداً الى ذلك وبناء على الوقائع التاريخية الموثقة فإنه لا ضير لدى الأميركي من تغيير وسائله وأدواته لتحقيق أهدافه ولو أدّى ذلك الى تكرار مشهد مطار كابول عشرات المرات.
انّ غداً لناظره قريب…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.