شهر على الزلزال.. الكثير من السواكن تحركت

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

كشف الزلزال، تحت الأرض، عن بنية وطبقات غير مستقرة، وهي تسعى بين الحين والآخر إلى التمدد والتقلص، لعل الفعل يفضي إلى حالة مريحة بدرجة أكبر عن تلك التي كانت قائمة، الأمر الذي يصعب التكهن بنتائجه تبعا لحالة التململ القائمة وتبعا أيضاً للمدى الذي تحتاجه تلك الطبقات لكي تصبح في حالتها المريحة آنفة الذكر، وربما كان ما يجري فوق الأرض شديد التشابه، في أحايين عدة خصوصاً في بنيات غير مستقرة، مع ذلك الذي يجري تحتها، فـ«الهزات» ما فوق أرضية كثيراً ما تكون تعبيراً عن إنزياحات لم تستقر بعد، وسياسات لم تتكامل ملامح تبلورها حتى تظهر بالصورة الأمثل التي تعبر فيها عن مصالحها، ثم عن الدور الذي تريد لنفسها القيام به، ولذا نراها تنتهج لنفسها حراكا يشبه في تراسيمه «الزلزال ما تحت أرضي»، بل وتلجأ أيضاً إلى إعقاب هذا الحراك بـ«هزات ارتدادية» التي غالبا ما تفيد في تهدئة المفاعيل التي نجمت عن الأول في صورة تؤكد أن حراك «ما تحت الأرض» يشبه ما «فوقها» كثيراً، أو أقله أن هذا الأخير يعتد بقوانين الأولى كصيرورة لازمة لاستنباط قوانينه التي يريد لها أن تسود في زمن لاحق.
بعد شهر من الزلزال السوري تحركت سواكن عدة، ما يشير إلى أن هذه الأخيرة كانت تعيش حالة من التململ هي الأخرى، وربما استشرفت في الحدث فرصة لمعاودة الحركة بطرق جديدة لعلّ الفعل يفضي إلى استعادة ما لتوازنات كانت مفقودة وهي قادت بالضرورة إلى بقاء المنطقة قابعة تحت خطر «الهزات الارتدادية» التي من الصعب التكهن بالمدى الذي يمكن أن تطول إليه، وفي ذاك سنرى وفد البرلمانيين العرب يحط في دمشق بعد مضي عشرين يوماً على الحدث، إنفاذا لمقررات مؤتمر بغداد الذي حمل الرقم 34 في المؤتمرات الخاصة بهؤلاء، والزيارة كانت تعبيراً عن أن السير في المسارات القديمة لم يعد ممكناً، ولا عاد الاستمرار فيها أمراً مجدياً، وكنتيجة فإن تلك الزيارة، تمثل كسراً لقوالب سياسية سابقة وتصنيعاً لأخرى جديدة منها، وفي الغضون راجت تقارير عن وساطة إماراتية عمانية مشتركة تمهد الطريق لزيارة وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان إلى دمشق، والفعل كان قد اكتسب مشروعية إضافية في أعقاب تصريحات هذا الأخير التي أطلقها من على منبر «مؤتمر ميونيخ للأمن» المنعقد ما بين 18-20 شباط المنصرم، وعلى الرغم من أن الفعل لم يحدث حتى الآن، لكن طرقه بهذه القوة، يعني أن ثمة تحولات مهمة قد طرأت على النظرة السعودية تجاه الأزمة السورية، جنباً إلى جنب الطريقة التي يجب التعاطي معها، وفي السياق عينه أبدت القاهرة استعداداً لافتا أظهرت من خلاله أنها معنية بالشأن السوري والمآلات التي تنتظر هذا الأخير، وأنها لا تستطيع تجاهل الحدث السوري بمفاعيله التي ترخي بظلالها على امتداد المنطقة، وربما فكرت القاهرة، بأن «الإنكفاءة» المصرية عما يجري في محيطيها القريب والبعيد هي سبب رئيس في العثرات التي تعاني منها التركيبة المجتمعية والاقتصادية المصرية بين الحين والآخر، فمصر دولة دور وليست دولة موارد، لكن الأول يمثل بالتأكيد بوابة للأخيرة، وفي مطلق الأحوال تمثل زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري، لدمشق يوم 27 شباط، تغيراً في طبيعة التعاطي المصري، مع الأزمة السورية واعترافاً بأن القديم منها بات ذا طبيعة لا تخدم «الدور» ولا «الموارد» على حد سواء.
بدورها دخلت الأردن على خط الأزمة السورية على الرغم من أن الفعل ليس بجديد، وقد سبق لعمان أن حاولت قبل نحو سنتين بالأدوات نفسها المستخدمة في دخولها آنف الذكر، ففي اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، مع نظيره البريطاني جيمس كليفيرلي يوم 26 شباط ركز الأول، وفقا لبيان صادر عن وزارته، على الأزمة السورية وسبل تنشيط مبادرة «خطوة مقابل خطوة» ذائعة الصيت التي تحظى بدعم المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون مع لحظ أن «المبادرة» صادرة أصلا عن دوائر غرف صناعة القرار في واشنطن التي كثيراً ما أسهبت في شروحاتها، وبدلت من تلاوينها تبعا للمتغيرات التي كانت تسير بسرعة الضوء في منطقة ملأى بالسرعات بدرجة قد تجعل الأحداث التي شهدها الأسبوع الماضي، مثلاً، كـ«الخبز البايت» الذي لا يستساغ أكله، الأمر الذي يجعلها أكثر المناطق عرضة للتحولات وقبولا للمتغيرات.
وفي خلفية الصورة، كثفت موسكو من نشاطها الرامي لبث الروح في مسار التقارب السوري التركي الذي أعلن عن انطلاقته منتصف فصل الصيف الماضي قبيل أن يفرض «الزلزال» إيقاعه على الحركة الروسية التي بدت وكأنها تريد القول: إن «ما جرى يجب أن يدفع العربة لا أن يفرملها»، لنرى المبعوث الخاص للرئيس الروسي ونائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف يعلن عن «استمرار العمل على تنظيم لقاء رباعي على مستوى وزراء الخارجية يضم سورية وتركيا وروسيا وإيران»، قبيل أن يضيف إن «اللمسات الأخيرة يجري وضعها الآن حول توقيت الاجتماع ومكان انعقاده».
من الممكن اختصار ما سبق بالقول إن مصر قررت العودة للساحة السورية، وإن الإمارات وسلطنة عمان تريان إمكان النجاح اليوم بات أكبر فيما ذهبتا إليه وكانتا سباقتين فيه، وإن الأردن ماض في خياره الجغرافي الذي يقول إنه من الصعب على الأردن، أن يكون معافى طالما أن جواره السوري بوضع ليس قريباً من ذلك، أما موسكو التي تخوض معركة تثبيت معادلات دولية جديدة، فهي ترى أن التعافي السوري سيكون هو «العنصر x» في رزمة تلك المعادلات، ولا بديل عن الوصول إليه إذا ما أريد لهذه الأخيرة أن تذهب نحو مراميها المأمولة، ومن المرجح أن يفتح ذلك كله الباب أمام مشهد سياسي وميداني جديد في سورية تتحول فيه جغرافيا الجوار إلى ضواغط لتصدير الاستقرار وفرضه، وتتحول فيه أنقرة إلى شريك أساسي في التسوية السياسية المرتقبة بعد أن تمترست، على مدى اثني عشر عاماً سابقة، على ضفة الشريك الأكبر في الحرب والطرف الأكثر فاعلية فيها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.