صناعة استطلاع الرأي في أميركا وتوجيه العقول

صحيفة الوطن السورية ـ
بنان النساف:
المجتمع الأميركي مشبع بـ«المادية» بالأشياء المادية، لذا فمن الطبيعي أن ترتبط الاختراعات أو الاكتشافات التكنولوجية في الذهن بالآلات أو العمليات المرتبطة بالآلة، على أن هناك أنواعاً أخرى من الاختراعات، ومن العناصر ذات الأهمية المتزايدة في توجيه العقول ذلك الاختراع الأميركي الاجتماعي الذي يسمى: «استطلاع الرأي».
ويمثل استطلاع الرأي نوعاً من الاختراعات مختلفاً تماماً، ومن أوضح سمات هذا الاختلاف أنه يستخدم تقنيات إحصائية لا عمليات فيزيائية، على أنه يختلف عن الاكتشافات التكنولوجية اختلافاً جذرياً، لأنه لا يستطيع أن يكون مفهوماً محايداً، فهو معني بحكم طبيعته بعادات ونيات إنسانية، وهو موجه أساساً لمساعدة صناع السياسات وصناع القرارات في المستويات الحكومية والسياسية والاقتصادية الأميركية المختلفة.
وفي منتصف القرن العشرين نشأت مجموعة منوعة من الاحتياجات الإعلامية الأميركية التي تمثل الوسائل المنهجية لاستطلاع الرأي وأفضل الطرق لمواجهتها، وزادت الروابط بين الجهات التي تجري الاستطلاع وبين الحكومة الأميركية، وأصبح داخل المجال الحكومي وخارجه تلاقٍ بين تلك المجموعة العظيمة من المهارات الإعلامية المكتسبة لتقيس وتعالج الرأي العام في عصر الهيمنة الأميركية، واحتل مستطلعو الآراء موقفاً طليعياً في تلك الفترة.
لقد كرست أبحاث استطلاع الرأي الأميركية جهدها كله في الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي في تلك الفترة، وتعاطفت صناعة استطلاع الرأي بلا تحفظ مع السياسة الرسمية، وقد أشار بعض منظمي شركات استطلاع الرأي الأميركي إلى أن الجانب الوحيد التي تتميز به أميركا عن الروس هو الوسائل المنهجية للاختبار المسبق للأفكار الدعائية، وأن إنفاق البلايين من الدولارات على الأسلحة لن تكفل لأميركا درجة التفوق والنصر على الشيوعية التي يكفلها إنفاق المبلغ نفسه على الحرب الإيديولوجية النفسية، والواقع أن الاستطلاعات ذاتها لا تحقق الكثير ما لم يتم استخدامها في عملية توجيه العقل والوعي الشعبي كما تريد تلك الاستطلاعات.
وعلى المستوى العالمي، تعالج مسألة «إعلاء شأن أميركا في الخارج بصورة مباشرة فعندما تدار عمليات استطلاع الرأي وراء البحار عن طريق الشركات التجارية الأميركية المتخصصة في عمليات استطلاع الرأي سواء لمصلحة الحكومة الأميركية أو لمصلحة شركات خاصة، فإنها تنفذ المهام التي يحددها لها رئيس منظمة استطلاع الرأي، والمتعلقة بإجراء التجارب الأولية على الأفكار الدعائية الحكومية وقياس مدى نجاحها.
أما استطلاع الرأي داخلياً حول قضايا السياسة الخارجية الأميركية فيتسم بطالع أقل تحديداً، فعمليات استطلاع آراء المواطنين الأميركيين في داخل البلاد حول السياسة الأميركية الخارجية، تخدم دائماً أهدافاً توجيهية، فالذين يسيطرون على سلطة اتخاذ القرار الحكومي وعلى النشاط الاقتصادي الخاص هم الذين يوفرون الدعم الأساسي لمستطلعي الآراء، وتحدد الاحتياجات الحيوية لهذه الفئات الثوابت والمؤشرات العامة التي تصاغ في إطارها الاستطلاعات، ومع أن الدعم الذي تلقاه هو شيء واقعي وحقيقي من منظور مالي، إلا أنه ما الخطأ أن ينظر إلى صناع الاستطلاع على أنهم مجرد خدمة يتم شراؤها، خدمة متاحة لمن يعرض ثمناً أعلى، وقد تحولت أشهر شركات استطلاع الآراء إلى وحدات اقتصادية عظيمة الشأن ككيان مستقل وإما اندمجت في إمبراطوريات المجموعات التجارية والصناعية الأميركية.
ومن المسلم به على نطاق واسع أن السياسة الأميركية تأثرت تأثراً كبيراً بالاتحاد القائم بين استطلاعات الرأي، فالتأثيرات المشتركة بين استطلاعات الرأي والتلفاز قد أدت واقعياً إلى إحلال أسلوب عملي يقوم على القرار المتعدد المصادر تنفيذياً، وتلك هي السياسة الأميركية كما تتجسد واقعياً: فهي تحليلية من الوجهة الفرضية، انتهازية من الواجهة التجريبية، وهي مبنية على التوجيه التضليلي على مستوى الإدارة.
وتكرس الدراسات الهامة جانباً كبيراً من اهتمامها لتنفيذ نظرية التأثير الإنجاحي لاستطلاعات الرأي، أي القدرة المزعومة لاستطلاعات الرأي على تصوير أحد المرشحين للرئاسة الأميركية على أنه الفائز أو الخاسر ومن ثم قدرتها على تأدية وظيفة ذات إنجاز ذاتي، وتطبيقاً لذلك فإن المرشح الذي تظهره الاستطلاعات الأولية متمتعاً بالشعبية ومتقدماً على منافسه يصبح في مقدوره اكتساب المزيد من التقدم على أساس ما يسمى التأثير الإنجاحي، والعكس يحدث مع المرشح الذي لا يحرز في الاستطلاعات سوى القليل من الأصوات.
فعندما يسأل استطلاع الرأي، من يستطيع من المرشحين (أوباما أو رومني) التعامل بصورة أفضل مع السياسة الخارجية لأميركا وخاصة قضية الشرق الأوسط؟ فإن مثل هذا السؤال يعرض الرأي العام للخديعة، لأن أياً من المرشحين لا يستطيع أو لا يرغب في التعامل بجدية كاملة مع الصراعات القائمة في الشرق الأوسط لإنهائها بل يرغب في تأجيجها وذلك لمصلحة إسرائيل، ومعنى طرح مثل هذا السؤال هو خلط الأمور وتحريف الواقع بالنسبة لقسم كبير من المواطنين الأميركيين، لأن العلاقة بين طرفي الاتصال أو بعبارة أخرى أن التدفق ذا الاتجاهين لا يمكن أن يحدث في حالة وجود عدم توازن بين الجانبين، لأن هناك عوامل تضعف أو تقضي على التكافؤ في التبادل بين الطرفين، فالتدفق المتبادل الثنائي الاتجاه ينقلب في الحال إلى قناة تضليلية أو استغلالية أحادية التوجيه.
وعندما يكون في مقدور السائل سواء بسبب موقعه أو دوره الفئوي في البنية الاجتماعية، أن يمارس تأثيراً أو ضغطاً بأي صورة من الصور على المجيب، فإن استطلاع الرأي يتحول إلى أداة للاضطهاد والقهر، لأن استطلاع الآراء يمكن أن يحذر عناصر السلطة الأميركية من اتباع أساليب محددة، وقد يقترح أن تتحرك تلك السلطة من خلال مسارات أكثر التواء للوصول إلى الغايات نفسها، والدراسات العلمية المعاصرة حول الرأي العام، والسياسة الخارجية الأميركية تؤكد أهمية قدرة القادة على تشكيل الرأي العام الذي يفترض تجاوبهم معه، وعلى تفسير الآراء التي يستمعون إليها بطرق تؤدي إلى تأييد وجهات نظرهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.