عام على الرحيل.. على العهد يا محمود

مرّ عام على رحيل الأخ والصديق العزيز محمود ريّا، عامٌ افتقدناه فيه كثيراً، واشتقنا له فيه أكثر.
يوم رحيله كتبت هذه الكلمات ولم أنشرها، اليوم وفاء مني للأخ الصادق المحب.. أنشر هذه الشهادة المتواضعة في شخص عمل لأكثر من ثلاثة عقود في الاعلام المقاوم مجاهداً في خطوطه الأمامية

كانت بيننا مواعيد كثيرة، وعناوين كثيرة.. لكنها بالأمس تلاشت حين سبقنا الموت اليك.. فأخذك منّا دون انذار مسبق، حتى لم يمهلنا لنودعك. الى أين يا محمود قد عجلّت الرحيل؟ هل مللت أفكارنا وضجرت برودتنا أمام الحياة التي كنت تضجّ بها؟
ثلاثة عقود إلا قليلا، كنا فيها معاً وما افترقنا.. كلما ابتعدت المسافات بيننا كانت القلوب تقترب أكثر، كلما ابتعدت بأفكارك واهتماماتك، حتى وأنت تطلب الصين، كنت تعود إلينا لتأخذنا معك.. لأنك تريدنا معك حيثما تكون.
بالأمس قادتني الفجيعة، الى سنوات طويلة ليكرّ شريط الذكريات التي جمعتنا، حين أتيت من البقاع الى العاصمة حاملاً حقيبة من الهمم وكثيراً من الولاء الخميني الصافي، فانغرست بيننا في جريدة العهد، فزدت إلى حبرها ألواناً والى فريقها محركاً قوياً وأفكاراً جديدة.
بك صارت “العهد” التي انتميت اليها، محرراً وكاتباً مساحة تتعدى صفحاتها الورقية الى مدى أوسع، زينتها باسمك وخبرتك وتقنيات المهنة التي كنت حارساً لها، لا تقبل بأن يكسر حدودها، الا الطارئ الآتي عاجلاً من الجنوب، تبادر الى الكتابة والتحليل واستشراف ما وراء الخبر، فتصيب كثيراً، لأنك كنت من المقاومة بندقية وفكرة وقلماً وبصيرة لا يغشاها دخان الأضاليل أو توهمات المضلّون.
وحين انتصرنا.. وذهبنا لننتبع البدايات، تلك البدايات التي أسست فكراً وعقيدة، حرصت أن تكون من الفريق، فكتبناها سوية وزدتها من شغفك لتشرق أكثر كحقيقة لا تزول، من خلدة وبركان أحمد قصير وبركات ذلك الحاج الذي غمرنا بحبه فأخبرنا الكثير عن الأيام الأولى لانطلاق الركب، واحتفظت بها كسرٍّ، لا يحتمل البوح.
كثيرة هي المحطات التي علينا أن نستعيدها اليوم.. ونحن نركض بين المكاتب ونننقل من مبنى لآخر، ليس مهمّاً كل ذلك التعب، المهم أن تبقى جريدة العهد تصدر، لأنها ستضفي على النصر لونّاً مختلفاً، كنت تدرك تماماً أن النصر في تموز هو حليفنا والعهد التي كتبت كل الانتصارات السابقة حتى 25 أيار 2000، ستكتب نصر تموز 2006.. وسيكون المانشيت على غلافها “انتصرنا”.
كنت تسبقنا دائما.. الى المستقبل، تستشرف الآتي بعمق وتستقبله استقبال العارف به، هكذا تعلمت تقنيات الحاسوب قبل أن تتعرف الى الكومبيوتر نفسه، وهكذا كنت أول من يذهب الى شبكة الانترنت ملمّاً بتفاصيل كثيرة بها، ومطلقاً المواقع الالكترونية كمداميك في بنية المقاومة الاعلامية.
وحين كان الانتقال بالعهد من الورق الى الفضاء الالكتروني، آلمك افتقاد الحبر وغياب الورق، لكنك استقبلت التكليف الجديد كمجاهد في ميدان القتال (سنكون حيث يجب أن نكون) فكنت سيد الساحة الجديدة، الخبير بخباياها والمدرك مسبقاً لأهميتها.. وهكذا كنت أولنا في ساحة التواصل الاجتماعي، وغير الآبه لسخرية الكثيرين من محتوى هذه المواقع ووصفها بالسخيفة، وحين ركب الناس موجة مواقع التواصل الاجتماعي، صرت خبيراً في توجيههم الى الصح منها وفيها، ومرشداً الى حيث يمكن لها أن تكون سنداً في معركتنا الاعلامية المتواصلة.. ولأنك السبّاق والمبادر دائماً، ذهبت الى اطلاق مشروع “غديرنا”، كموقع تواصل اجتماعي لا يخضع لوصاية وضوابط الأميركي ولا تتحكم به اهواء اصحاب رؤوس الأموال الغربية ومصالحهم الخليجية ومحاباتهم لاسرائيل.
لقد كنت يا محمود المبدع الذي لا تتسع له مساحة العالم، والناشط حين يركد الجميع، والخبير الذي يقرأ بين السطور ويرى خلفياتها بعمق، والعارف الذي يوظف معلوماته بالشكل الصحيح.. وقبل كل ذلك كنت معلماً لا يحتكر معرفة ولا يتوانى عن تقديم الارشاد والنصح.
سنفتقدك في كثير من الساحات حيث كنت تحل ضيفاً طيباً فتترك أثر لا يمحوه ابتعاد، وأنت في أي موقع حللت فيه تركت الكثير من الأثر، طلابك الذين تعلموا منك فن كتابة المقال، يكتبون اليوم “باحتراف” عهدهم للخط الذي أفنيت شبابك في مواقعه.. رحلة عمر يا محمود بدأت من اذاعة المستضعفين ونداء الثائرين يتابع فتوحات المجاهدين على خطوط الجبهة، الى المنار التي أمطت اللثام عن وجه الارهابيين الصهاينة في سلسلة وثائقية تحمل بصمتك وفكرتك، الى “الطنطورة” وابداع النص والفكرة، وعلى العهد.. كتبت سيرتنا “بلا مواربة”.. وأنت حتى اللحظات الاخيرة من حياتك لم تحد عن طريق اخترته بملء وعيك وحبك وشغفك، فأعطيته دون كلل أو ملل.
كانت بيننا مواعيد كثيرة.. آخرها كان قبل اسبوع من رحيلك، قلت في ذلك اللقاء الكثير، وأسعدنا أنك تملك الأمل رغم ألم ضعف البصر، فبصيرتك كانت نافذة كما عهدناك، نحن الذين نبصر من عينيك ونقرأ من عقلك وندرك من حسّك.
اليوم نفتقدك.. وغداً سنتفقدك أكثر، وكما بدأنا وسرنا في “العهد” معاً، لن نقول لك الا ما أحببت سماعه دائماً “انا على العهد يا محمود”.

أمير قانصوه

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.