قراءة قانونية في قواعد الاختصاص في محاكمة الرؤساء والوزراء

جريدة البناء اللبنانية-

المحامي سلمان أحمد بركات:

يقوم عمل المحاكم وتنظيمها في لبنان على مبادئ قانونية عامة مهمة، من هذه المبادئ، مبدأ فصل السلطات واستقلال السلطة القضائية.

ويعني فصل السلطات، أنّ للدولة وظائف، تقوم بها، وتمارسها بواسطة أشخاص أو هيئات، والوظائف التي تمارسها الدولة وفقاً لرأي مونتسكيو ثلاث، هي :

ــ وظيفة تهدف إلى وضع القواعد العامة المتضمّنة تنظيم حياة المجموع، وقد وصفت بالسلطة التشريعية.

ــ وظيفة تهدف إلى إجراء الأعمال واتخاذ القرارات لضمان حياة المجموع، ووصفت بالسلطة التنفيذية.

ــ وظيفة تختص بفصل النزاعات التي تثيرها حياة المجموع ودعيت بالسلطة القضائية.(1)

وقد سادت نظرية فصل السلطات في الحياة السياسية والدستورية فصارت بمنزلة المبدأ المقدس في الأنظمة السياسية والدستورية التي تعتنق الأيديولوجية التحررية.(2)

ويفترض مبدأ فصل السلطات، أن تستقلّ السلطة القضائية تمام الاستقلال في قيامها بوظائفها (فصل النزاعات المعروضة عليها). وأن تكون بعملها مستقلة عن عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية (الإجرائية). وهذا يفرض عليها في المقابل أن لا تتدخل في عمل السلطتين المذكورتين.

كرّس الدستور اللبناني هذا المبدأ في متون نصوصه، كما أكد على استقلالية السلطة القضائية في المادة /20/ منه التي تنص على أنّ «السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجتها واختصاصاتها ضمن نطاق ينص عليه القانون ويحفظ بموجبه للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة، أما شروط الضمانة القضائية وحدودها فيعينها القانون والقضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفذ باسم الشعب اللبناني».

وهذا يعني أنّ السلطة القضائية منوطة بالمحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، عدلية وإدارية، واستثنائية، وقد حدّد قانون أصول المحاكمات المدنية وقانون التنظيم القضائي وغيرها من القوانين ذات الصلة، عمل كل من هذه المحاكم.

طرحت في لبنان بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وبقوة مسألة الجهة الصالحة أو صاحبة الاختصاص لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

بعد هذه المقدمة وللإجابة على هذه المسألة، لا بدّ من مقاربة تحديد ماهية الاختصاص من جهة، وكيفية محاكمة الرؤساء والوزراء من جهة أخرى، إضافة إلى بعض القواعد القانونية الحاكمة الناظمة لمسألة الاختصاص.
أولاً: ماهية الاختصاص

يعني الاختصاص «أهلية المحكمة للنظر في الدعوى»، وفقاً لنص المادة /82/ من قانون أصول المحاكمات المدنية القديم، الذي كان يستعمل مصطلح الصلاحية بدلاً من الاختصاص، أما قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد (المعمول به حالياً) لم يضع تحديداً أو تعريفاً للاختصاص، إنما حدد في المادة /72/ منه أنواع الاختصاص: الاختصاص الدولي، الاختصاص الوظيفي، الاختصاص النوعي، الاختصاص المكاني.

وفي مطلق الأحوال، يعتبر المشرع وكذلك الفقه أن الاختصاص هو أهلية المحكمة للنظر في الدعوى كما أسلفنا.

وتعني قواعد الاختصاص بتحديد المحكمة المختصة، للنظر بنزاع معيّن، من بين المحاكم المتعددة، ومعرفة الجهة القضائية التي يدخل ضمن وظيفتها حل النزاع المطروح.

وتحديد قواعد الاختصاص، بجميع أنواعه، يطرح إشكالية هامة فيما إذا عرضت دعوى على محكمة غير مختصة، أو إذا نظرت المحكمة بدعوى ليست من اختصاصها، إذ قد يترتب على ذلك الدفع بعدم الاختصاص، لتصويب مسار الدعوى، وسلوكها المسلك القانوني الصحيح. والدفع بعدم الاختصاص هو من الدفوع الإجرائية المتعلقة بالنظام العام لا سيما إذا كان دفعاً بعدم الاختصاص المطلق، ويجوز الإدلاء به في جميع أطوار المحاكمة، وعلى المحكمة إثارته عفواً إذا لم يدل به أحد الخصوم(3).

بعد هذا العرض المقتضب لتحديد ماهية الاختصاص، وقواعده، يُطرح سؤال كبير وهام، من الجهة القضائية المنوط بها محاكمة الرؤساء والوزراء، لا سيما بعد النقاش القانوني والسياسي الدائر في لبنان حول ذلك.
ثانياً: الجهة الصالحة لمحاكمة الرؤساء والوزراء

أباح المشترع اللبناني لا سيما قانون أصول المحاكمات الجزائية ملاحقة ومحاكمة الأشخاص، لكنه اشترط في حالات محددة الحصول على إذن مسبق للملاحقة، في جرائم معينة نظراً لصفة مرتكبيها، وفرض إجراءات خاصة لتحريك الدعوى العامة، من هذه الحالات:
1 ـ ملاحقة ومحاكمة رئيس الجمهورية:

تنص المادة /60/ من الدستور اللبناني على أنه «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى.

أما التبعة في ما يختص بالجرائم العادية فهي خاضعة للقوانين العامة، ولا يمكن اتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلتي خرق الدستور والخيانة العظمى إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه، ويحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة الثمانين، ويُعهد بوظيفة النيابة العامة لدى المجلس الأعلى إلى قاضٍ تعيّنه المحكمة العليا المؤلفة من جميع غرفها».

ينهض من هذا النص أنّ الدستور اللبناني وضع أصولاً خاصة لمحاكمة رئيس الجمهورية، وحصر الحق باتهامه بمجلس النواب دون غيره، سواء كانت التهمة متعلقة بخرق الدستور أو الخيانة العظمى، أو كانت متعلقة بالجرائم العادية.(4)

وعليه لا يمكن لأية جهة قضائية مباشرة الدعوى بحق رئيس الجمهورية واتهامه غير المجلس النيابي، كما حصر الدستور صلاحية محاكمته بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الذي هو صاحب الاختصاص الحصري في ذلك.
2 ـ ملاحقة ومحاكمة رئيس الحكومة والوزراء:

لم يورد الدستور اللبناني نصوصاً خاصة في متونه تمنح رئيس مجلس الوزراء والوزراء أية حصانة كما هو الحال بالنسبة للنواب، لكنه أعطى للمجلس النيابي سلطة اتهامهم عند ارتكابهم الخيانة العظمى أو إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، حيث تنص المادة /70/ من الدستور على ما يلي: «لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس، ويحدّد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية».

وأضافت المادة /71/ من الدستور: «يُحاكم رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المتهم أمام المجلس الأعلى».

وبذلك يكون الدستور قد أناط بالمجلس النيابي سلطة ملاحقة واتهام رئيس الوزراء والوزراء، وأعطى صلاحية محاكمتهم للمجلس الأعلى.

ويعتبر البعض أن الصلاحية الممنوحة لمجلس النواب باتهام رئيس الوزراء والوزراء عن الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتبة عليهم، ثم محاكمتهم أمام المجلس الأعلى، ليست صلاحية إلزامية بل ممكنة، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أنّ المشرع الدستوري استخدم في نص المادة /70/ من الدستور عبارة:

«لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء».

وإذا لم يستعمل المجلس النيابي هذا الحق المعطى له، فللنيابة العامة استعمال هذا الحق، وهذا ما ذهبت إليه محكمة التمييز الجزائية في قرار صادر لها عام 1999.(5)

ويعتبر رأي آخر أنّ المادة /70/ من الدستور فرّقت بين فئتين من الأفعال المنسوبة لرئيس مجلس الوزراء والوزراء.

أ ــ فئة تشكل إخلالاً بالواجبات المترتبة عليهم، تخضع لإجراءات الملاحقة من قبل المجلس النيابي، والمحاكمة أمام المجلس الاعلى، وهي تستمدّ مفهومها من الطبيعة السياسية لعمل الوزير وجوهر مهامه كما أقرّتها القوانين والقواعد والأنظمة المرعية الإجراء، وهي تتصل بصورة مباشرة بممارسته لمهامه القانونية الوزارية.

ب ــ فئة أخرى تؤلف جرائم عادية، وتكون الملاحقة فيها خاضعة لصلاحية القضاء الجزائي العادي، باعتبارها جرائم عادية، كتلك المرتكبة من قبل الوزير في معرض ممارسته لمهامه (ولا علاقة بالمهام)، أو تلك المرتكبة في حياته الخاصة.(6)

وهذا ما ذهبت إليه الهيئة العامة لمحكمة التمييز، معتبرة أنه على ضوء ذلك «تكون صلاحية المجلس النيابي بملاحقة الوزير إما في حالة الخيانة العظمى وإما في حالة إخلال الوزير بالواجبات المترتبة عليه وفقاً لمعيارها ومفهومها المحددين أعلاه، ولا يتعدى ذلك في جميع الأحوال الجرائم الأخرى الخارجة عن هذا المفهوم والمعيار المومى إليهما في ما سبق».(7)

وعليه، فإنّ المجلس النيابي يتمتع بصلاحية حصرية في اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء في ما يتعلق بجرائم الخيانة العظمى أو الإخلال بالواجبات المترتبة عليهم والمشار إليها سابقاً، كما أنّ محاكمتهم عن هذه الجرائم محصورة بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهذا ما أكده نص المادة /71/ من الدستور كما أسلفنا. علماً أن النص المذكور أكد على صلاحية المجلس الأعلى في محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء، دون أن يميّز بين الافعال المرتكبة من قبلهم.

في ضوء النقاش القانوني الدائر حول هذه المسألة، لا بدّ من التذكير ببعض الضوابط والقواعد القانونية التي ترعى عمل القضاء والمحاكم.
ثالثاً: بعض الضوابط والقواعد القانونية الحاكمة لمسألة الاختصاص

ــ من المعلوم أنّ قانون أصول المحاكمات المدنية يرعى وينظم أصول المحاكمة أمام المحاكم المدنية، وقانون أصول المحاكمات الجزائية يُعنى بتنظيم الإجراءات والأصول الواجب إتباعها في التحقيق والمحاكمة أمام المحاكم الجزائية، وأنّ كلاهما يحدد اختصاص المحاكم، وطرق وأوجه الطعن في الاحكام والقرارات الصادرة عن القضاءين المدني والجزائي، كما أن للمحاكم الإستثنائية والخاصة قواعد وأصول محاكمة خاصة بكل منها.

ــ ولكن قد يوجد نقص في القوانين الإجرائية لناحية افتقارها لمعالجة بعض المسائل، فما هو الحل في مثل هذه الحالة.

أجابت على ذلك، المادة /6/من قانون أصول المحاكمات المدنية حيث تنص على ما يلي: «تتبع القواعد في قانون أصول المحاكمات المدنية إذا وجد نقص في القوانين والقواعد الإجرائية «.

وقد فرضت قوانين الإجراءات والأصول (المدنية والجزائية وغيرها) تطبيق النصوص القانونية ذات الصلة، دون أن تحدد كيفية التقيد بتسلسل القواعد القانونية، لكن سدّ هذا النقص قانون أصول المحاكمات المدنية الذي يجب العودة إلى نصوصه كلما وجد نقص في القوانين الأخرى.

ــ وفي هذا السياق تنص المادة /2/ من قانون أصول المحاكمات المدنية على ما يلي: «على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد..».

ومن المسلّم به أن النص الدستوري يسمو على النص القانوني، وفي حال التعارض أو التزاحم بينهما يطبق نص الدستور.

ــ أمام القاعدة المذكورة يصبح لزاماً على المحاكم تقديم النص الدستوري على النص القانوني.

وبما أن المادة /70/ من الدستور تنص على اتهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء من قبل المجلس النيابي، والمادة /71/ من الدستور تنص على محاكمتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، يضحي القضاء مقيداً بذلك، انطلاقاً من مبدأ تسلسل القواعد القانونية، بحيث لا يجوز ملاحقة الرئيس والوزراء إلا من قبل مجلس النواب، ولا تصحّ محاكمتهم إلا أمام المجلس الأعلى المومى إليه سابقاً.
ــ وأكثر من ذلك

وبما أن القاعدة الملزمة وفقاً للمادة /6/ أصول محاكمات مدنية هي اتباع القواعد الواردة في هذا القانون في كل حالة نقص في القوانين والقواعد الإجرائية الأخرى، فإن المادة /81/ أصول محاكمات مدنية تنص على أنه :

«يتحدد الاختصاص الوظيفي بموجب القوانين والأنظمة بالنسبة إلى الجهات القضائية المختلفة كالقضاء المدني والقضاء الإداري والقضاء المذهبي أو الشرعي».

وبذلك يكون النص المذكور قد أكد على أنّ الاختصاص الوظيفي تحدده القوانين والأنظمة في ما خصّ كافة الجهات القضائية، وهو ذكر القضاء المدني والإداري والمذهبي والشرعي على سبيل المثال لا الحصر، وعليه فإنّ الجهة الصالحة لمحاسبة الرؤساء والوزراء هي المجلس الأعلى، لأن القانون رقم /13/ الصادر في 18 / 8 / 1990 (أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى) قد نصّ على أنهم يحاكمون أمامه، وفي حالة وضوح النص وصراحته، لا مكان للإجتهاد في معرضه، خاصة في القضايا الجزائية.

وهكذا تكون صلاحية محاكمة الرؤساء والوزراء لا سيما في ما يتعلق بالأفعال المتعلق بصلاحياتهم، ومنها التقصير والإهمال، منعقدة للمجلس الأعلى السالف الذكر حصراً، وكذلك اتهامهم محصور بالمجلس النيابي وحده، وذلك سنداً للقواعد القانونية الحاكمة لمسألة الصلاحية والمشار إليها أعلاه، لا سيما قاعدة «تسلسل القواعد والنصوص القانونية»، وترجيح النص الدستوري، وتحديد هذه الصلاحية أيضاً في سنداً للمادة81 أصول محاكمات مدنية، والقانون 13 / 1990 المشار إليهما أعلاه.

وكلّ مخالفة لذلك تشكل مخالفة لنص الدستور وخرقاً له. كما تعتبر تجاوزاً للنصوص القانونية المرعية الإجراء لهذه الجهة. ومن المؤكد أنّ مثل ذلك لا يستقيم في العمل القضائي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ القانون القضائي الخاص، د. حلمي الحجار ــ الطبعة الثانية 1987 ـ ص 226

2 ـ الوسيط في القانون الدستوري العام ــ إدمون رباط ـ جزء 2 ص 553 وما يليهاـ وحلمي الحجار المرجع السابق.

3 ـ محكمة التمييز الثانية رقم 197/1/1971 مجلة العدل 1971 ـ ص 437

4 ـ أصول المحاكمات الجزائية ـ د. عفيف شمس الدين ـ منشورات زين الحقوقية ـ ص 221

5 ـ محكمة التمييز الجزائية ـ الغرفة الثالثة. تاريخ 14/3/1999 المصنف في القضايا الجزائية لسنة 1999، ص 20 وما يليها

6 ـ يراجع أصول المحاكمات الجزائية ـ عفيف شمس الدين مرجع سابق ـ ص38

7 ـ الهيئة العامة لمحكمة التمييز تاريخ 8 / 3 /2000 ـ عفيف شمس الدين ـ المصنف السنوي في القضايا الجزائية ـ اجتهادات سنة 2000 ـ ص 37 وما يليها

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.