قصة موت إعلام …

150304025356779.jpg

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
جان عزيز:

هو إعلام لبنان يموت. ربما كما كل شيء فيه. من الثقافة إلى السياسة، ومن الإنسان إلى المفاهيم. تماماً كما كل البلد يحتضر. هي قصة تستحق الرواية والإنذار.
ليست صدفة أن صارت في قاموسنا ثابتة عبارة «المسرح السياسي والإعلامي». أصلاً عمل الإعلام والسياسة في المجتمعات الاستهلاكية، هو عمل مسرحي كامل. لا ضرورة لتعداد مكوّنات المماثلة المتطابقة. من البطل والكومبارس إلى المخرج والكواليس، إلى المؤثرات والحبكة والجمهور… كل التفاصيل هي هي. الإعلام والسياسة مسرح فعلي شامل متكامل إذن.

 

لكن ما هو المسرح أصلاً؟ يقول جلال خوري إن المسرح هو في البداية والعلة، نتاج صوتين، رأيين. هو تفاعل نعم ولا. لا مسرح ولا تشخيص ولا تمثيل ولا أداء ولا تأثير ولا إثارة، إن لم يكن هناك اثنان، على الأقل. واحد يقول والثاني يناقضه. حتى إذا قال الثاني، ناقضه الأول. منذ بداية المسرح اليوناني، وازدواجية المانوية الشرقية القديمة، حتى الين واليانغ اليابانية، هذا هو المسرح. لذلك، وفق رأي صاحب «الرفيق سجعان»، لا مسرح إلا حيث هناك قلق وجودي. لا مسرح إلا حيث هناك صراع ونزاع وتجاذب. مع الذات أو مع الآخر لا فرق. ولذلك ها هي الأفكار الكليانية، العقائد الشمولية على مستوى معنى الحياة وأصلها وغايتها وما بعد الموت… هذه لا تعطي مسرحاً ولم تفعّل يوماً على مدى آلاف السنين.

قد تكون تلك الرؤية مجرد إسقاط ماركسي. لكنها هي هي، قصة الجدلية. من دونها لا حياة أصلاً. ولا تاريخ. ومنها بالذات انبثقت نظرية نهاية التاريخ. لمن يذكر قراءة كوجيف لفلسفة تاريخ هيغل، التي اقتبسها فوكوياما، بلا مزيد من الإغراق في التفلسف والتنظير… المهم، أن لا شيء ولا بشرية ولا حركة ولا أفق ولا غد، إن لم يكن هناك اثنان، رأيان. بدءاً بأسطورة الخلق، انتهاء بثنائية الموالاة والمعارضة في أي نظام سياسي. هذه هي الحقيقة المؤلمة: أننا نحتاج إلى من يعارضنا لنحيا. ثمة ضرورة لمن يناقضنا لنتطور. الحاجة حيوية إلى آخر، وإلى الآخر كمفهوم، كي أظل أنا.

في لبنان، يعيش «مسرحنا» السياسي والإعلامي منذ نحو سنة، مأزق هذه المأساة الخَلقية بالذات. تحديداً منذ قيام حكومة تمام سلام. ربما المسألة سابقة. والأكيد أن الأسباب لا علاقة لها بهذه الحكومة ولا بأشخاصها. لكن الواضح، أن توليفة ما داخلية وخارجية، فرضت في لحظة ما تحييد البلد قبل عزله أمنياً عن محيطه. وذلك لأسباب معروفة ومجهولة. صار المطلوب تعميم خطاب التهدئة. وخطاب التهدئة عندنا يعني أن نصير كلنا تلفزيون لبنان، في زمن الأسود والأبيض. لغات خشبية أكلتنا وأكلناها، نجترها كل يوم. كل الأساسيات في صراعنا ومفاهيمنا للشأن العام محيدة. تكاد تكون محظورة. تماماً كما الحوارات القائمة. أصلاً، هنا تكمن جذور التماثل المطلوب. ثمة خط أحمر هو منع الفتنة المذهبية. وبالتالي لا كلام يمكن أن يفسر في هذا السياق. لكن ماذا في البلد مما لا يصنف ضمن مصالح الطوائف؟ كل شيء في لبنان جزء لا يتجزأ من كيانات المذاهب ومن رؤيتها لذاتها ولخيرها الخاص الذي يصير كل الخير. هكذا يصير كل ما هو شأن عام خارج إمكان التناول. لا يمكنك أن تسأل عن هويات أصحاب شركة تشغيل الحاويات على مرفأ بيروت. لأن ذلك قد يصيب الفتنة المذهبية. لا يمكنك أن تسأل عن الوسطاء في عمليات شراء دفعات الأسلحة الموعودة. فذلك فتنة. لا يمكنك أن تسأل عن الجمارك وكلام المليار والنصف من الدولارات. فذلك في صلب الفتنة. لا يمكنك أن تبحث عن الضغوط على كازينو هنا، ولا عن لجنة رقابة على مصارف هناك، ولا عن توظيفات قطاع عام هنالك. ولا يستساغ الآن بالذات أن تنقب حتى عن قصة سلامة الغذاء، والوصفة الطبية وشركات الجينيريك، ولا عن تلزيم الحوض الرابع ولا عن أي مكتب ثان ولا عن تحويلات سنة الانتخابات من مليارين ونيف…

 

بقي لنا الموضوع السوري. نعلكه منذ أربعة أعوام. وبقي لنا ميشال سليمان. نبلّ أيدينا فيه، ونستحي كما الاستقواء على بدل عن ضائع. وبقي لنا إعلام السيقان والأفخاذ وما فوقهما وما تحت، حتى أسفل تحت.

 

وسط هذا المشهد، لم يكن ينقصنا إلا التمديد. ليكتمل الخواء السياسي والإعلامي معاً. حتى الانتخابات اختفت كمفهوم وككلمة. من النيابة حتى الجامعات. صار المسرح السياسي مملاً، رتيباً مضجراً. وصار المسرح الإعلامي على موات، على احتضار. أكثر من 40 مليون دولار خسائر شاشات لبنان سنوياً. نتيجة هذا الاحتضار ولو جزئياً. احتضار في الخطاب، وفي السوق الإعلانية، وفي المشاهد وفي العمق والشكل وحتى في مواكبة العصر والتكنولوجيا.

نحن نموت. على المسرحين السياسي والإعلامي. ليس المطلوب طبعاً إشعال معارك، ولا اقتصاد حرب. كل المطلوب حرية في القول من دون أن يوصلنا ذلك إلى القتل. فهل تتسع الصدور؟‍!

Source link

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.