قمة العشرين: من هندسة الاقتصاد إلى فوضى السياسة

g20summit

موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:

قامت “مؤسسة” قمة العشرين من أجل التنسيق بين الدول الكبرى والدول السائرة في طريق النمو على المستوى الاقتصادي، وأخذت مكانها على الخارطة العالمية ـ عند مستوى القمة ـ بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم ابتداء من العام 2008.

لم تخلُ القمم التي انعقدت بشكل دوري منذ ذلك العام من الحديث في السياسة، إلا أن التركيز الأساس كان على المواضيع الاقتصادية التي تهمّ العالم ككل، وكيفية العمل من أجل حلّها بما يكفل أن تعمّ الفائدة مختلف القارات والدول.

ولكن في السنوات الأخيرة توازى ـ إلى حد ما ـ الحديث في الاقتصاد مع الحديث في السياسة، ليصبحا متساويين ومتلازمين.
أما في القمة الأخيرة التي انعقدت في مدينة أنطاليا التركية قبل أيام، فإن السياسة سرقت كل الاهتمام من القادة المجتمعين، وبينهم قادة أهم دول في العالم.
ولإن غاب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن القمة، ليكون الرئيس الوحيد من بين قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وكذلك الرئيس الوحيد من بين قادة الدول الثماني الكبرى في العالم، فلأن الدافع لغيابه كبير وخطير ويقلب اهتمامات أية دولة وأي زعيم في العالم.

لقد عانت فرنسا من أزمة خطيرة، وكان على هولاند أن يبقى في بلده، ويترك المناسبة العالمية لوزير خارجيته لوران فابيوس، فيما هو انشغل بالاجتماعات الأمنية والجلسات الهادفة إلى معالجة الخلل الخطير الذي شهدته بلاده، والذي أسفر عن سقوط أكثر من مئة وعشرين قتيلاً، إضافة إلى عشرات الجرحى.

الحديث عن الاقتصاد ـ مع مرارته ـ يبقى بالنسبة للزعماء الذين حضروا القمة أقل إرهاقاً من طرح المواضيع السياسية، وهي مواضيع حارة، داهمة ومتفجرة، بين أيدي الزعماء الذين كان عليهم تقبّل “القصف” السياسي والإعلامي من كل الجهات، بهدف الخروج بقرارات ترضي الناس في أنحاء الكرة الأرضية، وتطمئن الجماهير الخائفة من رعب الإرهاب الأسود الذي أخذ يكتسح العديد من البلدان.

إلا أن ضغط الآثار التي تركها الإرهاب في فرنسا، وتمددت من هناك إلى كل عواصم العالم، كان أخف وطأة على ما يبدو من آثار “هزيمة” ما بدأت تلوح في الأفق. إنها هزيمة مشروع عملت هذه العواصم على التخطيط له والتحضير لمكوّناته وإطلاقه ودعمه وحمايته على مدى خمس سنوات، فإذا بقادة هذه الدول تجد نفسها ـ بشكل صادم ـ ملزمة بالاعتراف بفشله، لا بل بالعمل على التبرؤ منه والسعي لهزيمته ودعم المشروع المقابل له.

ومقابل هذا المشروع المتداعي، كانت أنطاليا مسرحاً لإعلان المشروع الناهض، مشروع روسيا وحلفائها، الذي اعترفت معظم الدول ـ إلا تلك التي باتت خارج حركة التاريخ ـ بأنه المشروع الأنسب لحلّ المعضلة التي باتت تقض مضاجع العالم ككلّ، معضلة الإرهاب المتأسلم الذي تنفخ فيه القاعدة بكل فروعها الشرعية وغير الشرعية، المعترف بها قاعدياً أو المنبوذة من “أمير المؤمنين” و”الخليفة” وغيرهما من التسميات.
كانت الكلمات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمثابة تعنيف مباشر وبلا أي غطاء للعديد من الدول الغربية والإقليمية، ومن الأراضي التركية بالذات، حين تحدث عن أشخاص من أربعين دولة يدعمون الإرهاب، بينها دول موجودة في قمة العشرين.

الكلام قاسٍ وجارح للموجودين، ولكن أحداً لم يتجرأ على الرد، ولا على الاعتراض ولا على التكذيب، بل أكثر من ذلك لم تعمد الكثير من وسائل الإعلام الغربية والعربية إلى نشر كلام الرئيس الروسي، ما أوحى بأن الدول المعنيّة تعرف نفسها، وتعرف أنها تدعم الإرهاب بشكل أو بآخر، هذا الإرهاب الذي ادّعت في بيان القمة الختامي أنها تعمل على محاربته وتبذل جهودها للوقوف بوجهه. ويا لها من ازدواجية في المواقف كشفها الرئيس الروسي، وحاولت الآلة الإعلامية الغربية ـ العربية التعتيم عليها: دول تزعم وقوفها في صف محاربة الإرهاب الذي استهدف سوريا والعراق ولبنان وفرنسا وغيرها من الدول، تقوم بدعم هذا الإرهاب نفسه.

إذاً، لقد كانت قمة العشرين قمةً في تعرية القوى التي تقف وراء الشر الذي يعمّ العالم ويهدّد حضارته وناسه ووجوده بحد ذاته، في حين أن الدول التي تقف بحق في مواجهة الإرهاب وتعمل على مكافحته ترفع صوتها دون خوف أو وجل، وتشحذ أسلحتها الإعلامية والسياسية والعسكرية للدخول في معركة حاسمة تحمي العالم كله من الزحف الأسود، وتعطي أملاً للبشرية بانتصارها على هذا الطاعون الذي لا يبقي ولا يذر.
لقد قامت مجموعة “قمة العشرين” لتهندس الاقتصاد المتداعي في العالم، فإذا بها تتحول إلى منتدى لإدارة فوضى السياسة التي خلقتها بعض القوى التي لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة على حساب المصلحة العامة، مصلحة عيش العالم في تنوّع وأمن وسلام، فهل تكون هذه القمة نقطة انطلاقا نحو تصويب العديد من هذه القوى لمواقفها والعودة إلى جادة الصواب، أم أن الحرب ستبقى قائمة بين المؤمنين بحق الشعوب بكرامتها واستقلالها، وبين الطامعين بجعل كل العالم عبيداً عند مدّعي السيادة المطلقة على العالم؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.