#كوريا نووية.. لماذا؟

 

موقع إنباء الإخباري ـ
الأكاديمي #مروان_سوداح:*

بحركة واحدة من يد مايسترو “البيت” ذاته، ضجّت وانتفضت عشرات بلدان وصحافات العالم الغربي الصناعية و العربي الزراعية القبليّة، وأزبدت وأرعدت عواصم التخلّف في العالم الثالث الموالية لواشنطن وشقيقاتها الاوروبيات، وأُهرقت جِبالٌ من الورق والأحبار لمنظمات “ديمقراطية” و مُجتمعية و مَدنية وحتى بيئية، ووقفت كل هذه وقفة رجل واحد مَشدودة لإدانة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية وصواريخها ومدافعها وقراراتها السيادية ووصفتها للأسف بأقذع الأوصاف، وبعض عواصم تلك العوالم وجّهت سُباباً لا يَليق بحكومات وقادة ومثقفين(!)، لكنها لم تَنبس ببنت شفة عن حقيقة أفعالها ضد كوريا، إذ جَبُنَت عن كشف مؤامراتها الذاتية السرية على شعب كوريا ومصائر الكوريين وغيّبت عشرات السنوات من تاريخها الهمجي في النيل من الكوريين والطحن بهم والتفتيت بأجسادهم النحيلة الجوعى وجرائم فصل رؤوسهم عنها ورفعها على أسنّة سكاكين البنادق، في صور وحشية يَندى لها جبين الانسانية وتضج بها شبكة الانترنت، فاستنسختها داعش والنُّصرة وألف فصيل إرهابي أخر يقاتل اليوم في سورية والعراق وليبيا واليمن، ويحارب حتى في الفلبين وتايلند وفنزويلا لإعادة البشرية الى الإقطاع والإقطاعية..!

 

في الفصل الأخير من المواجهة الكورية – الأمريكية الأخيرة، انسحبت قوات ترامب الجو فضائية والبحرية والبرية والهيدروجينية والنووية والكيميائية والمغناطيسية والفراغية والارتجاجية وما لف لفها وشابهها من ساحة المعركة “التاريخية الأخيرة” التي هدّد بها وتوّعد شبيح “البيت” وزعيم القبيلة لمحو بيونغيانغ من على وجه الأرض!.. أتدرون لماذا انسحب، ولماذا نزل لوحده من على الشجرة العالية قبل أن يُنزِلهُ البعض بوساطات ومباحثات ووعود؟

الجواب أبسط من بسيط، وهو واضح للعيون والآذان بدون رتوش ولا تفلسف أو تحليل سياسي وصحفي أو “جيوسياسي” يشتهر به المتحذلقون في كل مكان.

الكوريون يدركون عميق الإدراك، أن أحداً في هذا الكوكب الأرضي ونجوم السماء لن يدافع عن استقلالهم وحياتهم إن هاجمتهم أمريكا وشربت دماؤهم، فلا أحد يرغب بالمواجهة المباشرة مع أمريكا في حرب عالمية ثالثة نووية وشاملة، ليس خوفاً أو خشيةً، إنما الأمر يَندرج في مناهج العلاقات الدولية والاستراتيجيات العمقية للدول، وتفضيلها الإضعاف التدريجي للعدو مع مواجهات باردة لا حارة معه، لكنها لا تنقذ شعباً ودولة في خضم الحرب الناشبة.

أمريكا تدرك بدورها الفضاء المُتاح لهذه السياسة وتنهج تكتيكات مختلفة ومدروسة في تطبيقاتها، لذا نرى كيف تشرع واشنطن بتوظيفها خدمةً لتوسّعيتها العالمية في العديد من بِقاع العالم، من خلال تصريحات نارية متناقضة وتهديدات وحِصارات لخصومها والدول المستقلة الرافضة للخنوع والتحوّل الى أنظمة مُلحقة ووظيفية تخدم السياسة الامريكية حصراً.

وفي مواجهة السياسة الأمريكية الإمبريالية، تنهج القيادة السياسية الكورية نهجاً صَلباً يتوافق وقرارها النهائي والحاسم بالمواجهة العسكرية والدفاع عن وطنها وشعبها وتاريخه ومستقبله ومكتسباته مهما كلفها ذلك من تضحيات وخسائر جِسام.

ومن الضروري التأكيد أن شعب كوريا وقيادته قد سبق وأعلنا عن موقفهما العسكري والمصيري هذا منذ أمد بعيد، وليس اليوم فقط، وليس بالقطع في خضم الازمة الاخيرة العميقة مع تحالف الشر الدولي، إنّما عملاً للانتصار في هذه اللحظة المشهودة، منذ اولى أيام نهايات الحرب العالمية الثانية، ومروراً بأعوام 1050-1953، عندما استشهد ملايين المواطنين والاطفال الكوريين، وسقط مضرجاً بدمائه ملايين من قوات حلفائهم الصينيين والروس، جيرانهم ومِن غير جيرانهم، فالتف الكوريون قيادةً وشعباً حول بعضهم بعضاً كالسوار حول المِعصم، لتوحيد صفوفهم بقوة فولاذية وبانتهاج نهج واحد أحد، فكان لهم ما أرادوا بعدما ابتعدوا عن مباهج الحياة.. لكن في سبيل الحياة..

قبل اليوم، وخلال رئاسة مختلف الرؤساء الأمريكان، كان موقف كوريا واحداً، ولم يتغير ولم يَنزاح قيد أنملة في إي إتجاه أخر غير الاتجاه الذي اختاره الشعب وقيادته منذ سنوات طويلة.. فقد حاولت رئاسات واشنطونية سابقة تجييش العالم وكسب الرأي العالم الدولي وتوظيفه إعلامياً، تمهيداً للهجوم على كوريا فكسب الجولة، وهو وضع  يُشابه تماماً تجييش واشنطن الآن للعالم على سورية، متّهمة إيّاها بالتحضير لهجوم كيميائي على شعبها(!)، برغم أن واشنطن كانت قد نسّقت مع موسكو في سنة سابقة وبرعاية الامم المتحدة وإشرافها، لإتلاف كامل المخزون الكيميائي السوري، بينما لم تلتفت هذه “المتحدة” بكبارها وصِغارها الغربيين والاعراب، ولو بكلمة واحدة، الى المخزون الكيميائي الصهيوني، ولم تأبه للمستودعات التحت أرضية الكثيرة المُشتملة على قنابل الدويلة الاسرائيلية من ذرية وغازية وفراغية ولازرية وارتجاجية وبيئية وغيرها، وضربت عرض الحائط بنحو سبعين قراراً أممياً لحل القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المشرّدين والمحاصرين، بل ها هي تؤازر تل أبيب لمزيد من شرعة المستوطنات/المُغتصبات وضم الاراضي وإلحاقها فعزل القرى الفلسطينية وتفريغها من العرب، وسرقة نفط وغاز الضفة الغربية وقطاع غزة وشواطئها، ويجري كل ذلك وغيره تحت سمع وبصر الامم المتحدة ورؤساء ودول عوالم العرب والفرنجة، دون انتقاد واحد منهم لِمَا تمارسه العدوانية والاحتلالية الصهيونية مِن بشاعات يومية توازي القروسطية الفاشية والنازية الهتلرية.

وها هي تتكشف اليوم وعلى رؤوس الاشهاد باطنية ومرامي القصف الصهيوني للجيش العربي السوري خلال مَعاركه المجيدة لتحرير هضبة “الجولان” من داعش و النصرة و “جيش خالد بن الوليد” المُتحشرج في مُغر خطوط الهدنة للمُثلث الإقليمي الاستراتيجي الشمالي الغربي، والشراذم والعصابات الاخرى التي تَحتمي بجيش العدو الصهيوني، الذي يُعالج جَرحاهم في “هداسا” والمَشفى العسكري الحدودي في “الجولان” على سمعِ وبصرِ التحالف الامريكي..

في كوريا الوطن والحدود والبلد والأطراف والأعماق التي زُرتها كثيراً والتقيت مسؤوليها، تيقّـنت ولمست جيداً أن لكل عدوان عليها ردّ أضخم منه وأعمق في حجمه وإتجاهاته، إذ أكدت القيادة الكورية ردّها الفوري والواقعي بالأفعال والمعارك قبل الأقوال والتصريحات، وكان ذلك خلال كل سنوات المجابهة مع العدوان الأجنبي الغاشم، الذي قفز من الأراضي الامريكية إلى التراب الكوري على بُعدِ آلاف الكيلومترات، ليغيّر بالطلقات والتفجيرات واقعاً تاريخياً لدولة أجنبية ويغتصبها، ويَعتدي عليها وعلى شعبها الأصغر حجماً وقدرات من شعب الولايات الامريكية بأضعاف كثيرة، وليغيّر  بالإملاء الحربي والموت عادات الكوريين ولغتهم وتقاليدهم وتاريخهم الذي يَمتد لأكثر من خمسة ألاف سنة ولم ينجح، بينما تاريخ “الشعب الأمريكي” يَقل عن  300سنة، منذ وثيقة الاستقلال التي تبنّاها “الكونغرس القاري” في 4 يوليو1776، وشرع بعدها، إثر إبادة “الهنود الحمر”، بتصدير “الحلاق” إلى شتى القارات، لاستعمارها والحلول بأراضيها عنوةً وقسراً وقهراً بشعوبها، وبضمنها شعب كوريا المُعذّبة والجريحة الذي كان بتفكيره الطبيعي والبسيط يتلقّف الأسماك والمواد الغذائية التي تلقيتها طائرات “العم سام”، إعتقاداً منه أنّها “مساعدات حكومية” على شاكلة (ليند – ليز)، ليستشهد بالسموم التي “حُشيت” بها!، عِلماً أن إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سدّدت للولايات المتحدة المبلغ الكامل المتبقي عليها من هذه “المساعدات!” التي أرسلتها أمريكا لروسيا والسوفييت خلال الحرب الكونية الثانية، وأرادت تكرارها مع شعب كوريا الذي اكتشف ماورائياتها المُمِيتة، فعارضها ولفظها مُفضِّلاً عليها الشهادة في سوح معارك الشرف والبطولة والكرامة..

لقد تأكدتُ أنا شخصياً في كوريا (كيم جونغ وون) العظيم والقُدوة، أنها دولة لا تصمت ولا تتراجع ولا تصبر ولا تتلكأ في مواجهة أي تهديد وعدوان مهما دَقَّ وصَغُر وتلوّن.

فالرد فوري وقاصم يُخرس ويُبيد الخصم في جُحوره قبل أن يَخطو الخطوة الاولى في إبادة كوريا. وهذا السبب الكفاحي هو بالذات الذي جعل من كوريا الديمقراطية  التي خرجت منتصرةً في المواجهة مع ترامب، دولةً ذات أهمية إقليمية وكُبرى برئيسها وقيادتها ودورها وإمكاناتها نظاماً وشعباً مُتّحداً وواعياً ومُدرِكاً لدوره الاقليمي والعالمي.

كما ان ديمقراطيي العالم ووطنييه صاروا يرون في كوريا وطنهم الذي يُحتذى، فهم يُدركون معاني الوطنية والاخلاص القومي والانساني وأبعاد تفعيل الاستقلالية والزوتشية والسونغونية التي يؤمن بها الكوريون، والتي يرفعونها رايةً خفّاقة أبداً في سماءاتهم دون وجَلٍ مِن أحدٍ.

وليس ختاماً، بل بدايةً لمقالات لاحقة، أن كوريا عظيمةٌ بشعبها الذي بَقِي على العهد والوعد. فهو لا يَستسلم للعدو، وإن وَقع في الاسر، يُقاتلُ ليستشهد في أول دقيقة مواجهة لئلا يَنال السجن والأسر منه مَنالاً، فقد جُبِلَ الكوريون على الفكرة  دون اللُّقمة، والاخلاص للزعيم والدولة دون (الثلاثين من الفضّة)، وهو تميّز لهم عن بقية العالم، فهم طلاب حرية لا طلاب أطعمة، وتاريخ إنجازاتهم الصناعية كبرى، وتقنياتهم مذهلة وتصل أجرام الأكوان، وإن بانت لشعوب العالم الغربي مُتأخِّرةً عشرات العقود، ليتكشّف للأُمم مدى صمود الكوريين الأحرار وأُنفتهم، ليكون الغد مُلكاً لهم لا عليهم.

*#مروان_سوداح.. كاتب مُتخصّص بالشأن الكوري ورئيس الفعاليات الكورية ومجالس التضامن والإعلام العربية مع كوريا، وحَامل أوسمة وجوائز كورية، و”الصحفي الفخري” لجمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، ورئيس تحرير (#وكالة_بيونغيانغ_الإخبارية) على الفيسبوك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.