كيف تسلّلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا؟

موقع قناة الميادين-

هادي حطيط:

تعزّز الاستثمار الأميركي في أوروبا الشرقية منذ منتصف التسعينيات عبر برامج الدعم، تحت عناوين “تعزيز الديمقراطية” و”نشر القيم الليبرالية” و”فتح الاقتصاد”.

تحتلّ أوكرانيا، الدولة العملاقة، 0.4% من مجمل مساحة العالم البريّة، ولكنّ المساحة التي تحتلّها من حيث الموارد الطبيعية تجعل مساحتها على صعيد الأهمية الاستراتيجية أكبر بكثير من معظم دول العالم، فهي تحتوي وحدها ما يزيد على 5% من مجمل موارد العالم، بحسب ما تمّ اكتشافه حتى اليوم[1].

تمتلك أوكرانيا احتياطات هائلة من خامات اليورانيوم والمنغنيز والحديد والزئبق والفحم والغاز الصخري، تفوق ما تمتلكه القارة الأوروبية بأسرها. ولا تقف حدود الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا عند الموارد التي تختزنها أرضها، بل إنّ التربة السوداء الخصبة التي تغطي ما يزيد على 70% من مساحتها، تشكّل 25% من مساحة التربة السوداء في العالم، مع أكثر من 54% منها مساحات مزروعة[2]، ما يضعها في المرتبة الخامسة عالمياً من ناحية مجموع الصادرات الغذائية، كزيت دوار الشمس والذرة والبطاطس والشعير والقمح والنحل وبيض الدجاج، ويجعل لقب “سلّة الغذاء الأوروبية” مستحقاً لها عن جدارة.

من هنا، كانت الأهمية التي أولاها الاتحاد السوفياتي في سياسته التنموية لأوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، إذ عمل على بناء الصناعات الثقيلة في شرقي البلاد ووسطها، إضافةً إلى استخراج الغاز الطبيعي وتنمية الزراعة وشبكات المواصلات، ولا سيما الطرقات وسكك الحديد، إلى مرحلة أواسط المرحلة السوفياتية التي اختلفت فيها سياسات الحزب السوفياتي التنموية لأسباب مختلفة، وبدأت عملية الاستثمار في تطوير القطاعات الإنتاجية تتباطأ، حتى وصلت إلى أدنى مستوياتها عند منتصف السبعينيات.

ولكن منذ بداية إرهاصات تفكك الاتحاد السوفياتي، مع تولّي تيار الإصلاحات بزعامة غورباتشوف الحكم، اتّجهت أنظار القطب الأميركي نحو أوكرانيا ودول الاتحاد السوفياتي الأوروبية بشكل خاصّ. وبعد العام 1991، أصبحت هذه الدول في محور اهتمام السياسة الخارجية الأميركية على مختلف الصعد العسكرية والأمنية والاقتصادية.

وفي هذا الإطار، اعتمدت الولايات المتحدة على منطقة المحيط الروسي لتكون مركزاً للعمل المكثّف ضدّ موسكو من جهة، بهدف تحجيمها واستكمال مكاسب انهيارها والإجهاز على ما تبقى من قوتها السياسية، ولتكون مصدراً للموارد الطبيعية الخام وورقة قوة اقتصادية كبرى على المستوى العالمي من جهة أخرى.
الأميركي يدخل على الخطّ الساخن

تركّز العمل في دول الطوق الروسي، التي باتت تضمّ فنلندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وإيران وغيرها، على الأساليب “السلمية” بشكل أساسي في مواجهة نفوذ روسيا الاتحادية.

ولا شكّ في أنّ هذه السياسة كانت أكثر فعالية بالنسبة إلى الأميركي ومحور دول الغرب عموماً، فالقدرات “الناعمة” التي طوّرتها الولايات المتحدة كانت تفوق بمستويات ومراحل القدرات الروسية في هذا المجال.

عشية تفكك إمبراطوريتها، كانت موسكو – كدولة نووية كبرى تملك أحد أكبر وأقوى الجيوش في العالم – ما تزال تملك “قوّة صلبة” رادعة للمحور الغربي، ولكن على صعيد التأثير في الرأي العام وتوجهاته، كانت ما تزال تخطو خطواتها الأولى بعد انطفاء زخم المدّ الشيوعيّ في العالم.

تفاقم الاستثمار الأميركي منذ منتصف التسعينيات عبر برامج الدعم تحت عناوين “تعزيز الديمقراطية” و”نشر القيم الليبرالية” و”فتح الاقتصاد” في هذه الدول، وفي أوروبا الشرقية بشكل كبير، عبر السيطرة تدريجياً على الإعلام والخطاب الإعلامي والأكاديميا، وعبر احتكار الاستثمارات الاقتصادية الأساسية وحصرها بيد شركات مملوكة أو مدارة أميركياً وشخصيات مقربة من الولايات المتحدة، ما ساهم في سيطرة الولايات المتحدة بشكل شبه مباشر على الحكم والسياسات الداخلية في البلاد.

كما شكّل انضمام 7 دول إلى حلف الناتو في العام 2004، إضافةً إلى وجود فنلندا والسويد ضمنه، رافعة أساسية لعملية شرعنة نفوذ الولايات المتحدة الأميركية وتثبيته سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في أوروبا الشرقية، وإطباقاً مباشراً على أيّ أمل للسياسة الخارجية الروسية بالعودة إلى أداء دور في أراضيها السابقة.

ولا شكّ في أنّ الولايات المتحدة ترغب بشكل كبير في ضمّ أوكرانيا إلى حلف الناتو، فالمكاسب على مختلف الصعد تفوق بأضعاف حجم أيّ مسؤوليات تجاه البلد، ولكنّ خطورة المسألة تنبع من مدى تجنّب أميركا إثارة الحساسية الروسية بشكل يهدّد استقرار شرق أوروبا، ويؤدّي إلى أضرار تفوق حجم أي استفادة محتملة، فضلاً عن خطورة نشوب نزاعات مسلحة كبرى لن يكون بمقدور موسكو تجنّبها عندما تصل قواعد الناتو إلى عتبة الكرملين.

ومع كلّ ذلك، يمكن القول إنّ خطوات ناقصة الحسابات من قبل واشنطن وحلفائها كانت السبب المباشر في عودة الكرملين لأداء دور سياسي كبير في أوروبا ووسط آسيا وغربها، كان يتمنّى الأميركيون أن تحول سياساتهم دونه.
السياسة الداخلية لمراهق اسمه أوكرانيا

يعتمد الخطاب الإعلامي السائد مغالطات من الجيّد التوقف عندها. صحيح أنّ يانوكوفيتش كان “الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا”، ولكنّه رئيس منتخب بشكل دستوري، وجاء بأصوات الأوكرانيين. في العام 2004، عندما زعم معارضو المرشّح الفائز في الانتخابات يانوكوفيتش أنّ تزويراً وقع، قامت اعتراضات شعبية عُرفت في ما بعد بـ”الثورة البرتقالية”.

قامت المحكمة الدستورية بإلغاء نتائج الانتخابات وإعادتها، وأدى ذلك إلى فوز يوشنكوفيتش الَّذي شهدت فترته الرئاسية نزاعات كبرى داخل حزبه الحاكم، أدّت في نهاية المطاف إلى ابتعاده، ثمّ معاداته ليوليا تيموشنكو، التي أصبحت زعيمة المعارضة بعد خسارة حزبها انتخابات في العام 2010 لمصلحة الرئيس السابق يانوكوفيتش.

الرئيس الجديد الذي جاء بأغلبية أصوات الأوكران لم يخفِ يوماً تقرّبه من سياسات موسكو، وسرعان ما بدأ بفرملة مفاعيل مرحلة سلفه التي سرّعت ارتماء كييف في الحضن الأوروبي والغربي، وإعادة تقوية العلاقات التجارية والسياسية مع موسكو.

لا شك في أنّ هذه السياسة لم تكن مرضية لطموحات المحور الغربي بأوكرانيا الجديدة البعيدة عن النفوذ الروسي، وكون الأغلبية الشعبية اختارت الرئيس في الانتخابات بشكل دستوري لا يعني أنّ يد الولايات المتحدة كانت خالية من الحيل، بل إنّ الكثير من الأدوات التي بدأت زراعتها في بدايات التسعينيات أثمر بعد 20 سنة أجيالاً ترى أنّ خلاص أوكرانيا وازدهارها لا يمكن أن يأتي إلا من الباب الأوروبي. تفاقم الانقسام السياسي الداخلي مع قرار البرلمان الأوكراني سحب طلب البرلمان السابق بالعضوية في حلف الناتو، وكانت الواقعة يوم قرر الرئيس يانوكو التريّث في أخذ القرار بالانضمام إلى معاهدة الشراكة مع أوروبا.
الشرارة: معاهدة الشراكة الأوكرانية – الأوروبية

لم يعلن يانوكو رفضه للمعاهدة، ولكن كان يكفي أن يعلن تريّثه في إمضائها ورغبته في بحث نقاط محددة فيها بشكل أكبر، لتقوم القيامة الأوروبية والأميركية عليه في فبراير/شباط 2014، فخرجت الجماهير المعارضة بعشرات الآلاف في ساحات كييف العاصمة وفي لفيف والمقاطعات الغربية بشكل أساسي، وسط تغطية إعلامية عالمية وتجييش كبير للرأي العام المحلي والأوروبي والعالمي.

قام جنود في الجيش الأوكراني بإطلاق النار على متظاهرين في ساحة “ميدان”، فقتلت عدداً منهم، لتصبح الساحة رمزاً للنضال ضدّ الحكم العسكري في الإعلام العالمي، ويهرب الرئيس إلى روسيا تحت وطأة الضغط السياسي العالمي وإدانات الدول الكبرى.

كانت المعاهدة مكسباً ضخماً لأوروبا، ومن خلفها مباشرة الولايات المتحدة، يفتح السوق الأوكرانية وثقافتها الشعبية على ما تصدّره لها جاراتها الأوروبية، ويقف حاجزاً أمام نموّ اقتصاد أوكرانيّ عملاق بشكل مستقلّ عن أوروبا وشريك لروسيا باقتصادها ونفوذها السياسي، الأمر الذي لن يكون في حال تحققه إلا كابوساً على القارة التي لا تزال هواجس القرن الماضي وحروبه عالقة في زوايا عقلها الباطني.

كانت المعاهدة تعني تخفيفاً كبيراً للعلاقات التجارية مع موسكو، والأسوأ هو القضاء التامّ على الصناعات المحلية الثقيلة وقدرتها التنافسية مع المنتجات الأوروبية التي ستغرق الأسواق، وستتمتع بحمايات وإعفاءات ضرائبية نصّت عليها المعاهدة[3] بشكل مباشر في صفحاتها الألفين ومئتين، كما كانت مكاسب أوكرانيا الأساسية من المعاهدة هي قروض طويلة الأجل بقيمة 800 مليون دولار سنوياً لتحقيق التنمية في البلاد.

صرّح يانوكو مباشرةً عقب إعلان رفضه إقرار المعاهدة بصيغتها الحالية أنّ أوكرانيا “بحاجة إلى قروض بقيمة 20 مليار دولار سنوياً مقابل فتح اقتصادها على أوروبا لتحقيق إنماء وازدهار يجعل البلد في صفّ الدول الأوروبية المتقدّمة”، ولكنّ أوروبا كانت تريد فتح أسواق أوكرانيا عليها وانتزاعها من الحضن الروسي، مقابل إبقائها دولة أوروبية متخلّفة تتركّز التنمية فيها في المدن المركزية على حساب الأرياف الفقيرة.
ثورة أوكرانيا الغربية على الشرقية بمفاعيل عكسية!

“الثورة” التي قادتها مقاطعات البلاد الغربية في أوكرانيا أجّجت حالة الانقسام بين مكوّنات الشعب الروسي على أساس سياسيّ مبنيّ على عوامل ثقافية وإثنية وجغرافية وديمغرافية واقتصادية. تفصل العاصمة كييف الواقعة في الوسط الغربي للبلاد عن شرق أوكرانيا ذات الغالبية الروسية أرياف واسعة مع بعض المدن الصغيرة، إذ أدّت السياسات الحكومية التي اتُبعت في العقود الأخيرة إلى تمركز التمدّن والعمران في العاصمة مقابل تهميش الأطراف الشرقية وضعف التنمية اللامركزية[4]. وإذ تعتبر المناطق الشرقية من أوكرانيا ذات الثقافة الروسية من أكثر المناطق كثافة سكانية في البلاد، فإنّ مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك فقط يعيش فيهما ما يقارب 6.5 مليون نسمة، أي حوالى 15% من سكان أوكرانيا[5].

وتعتبر المناطق الواقعة في وسط أوكرانيا، باستثناء العاصمة كييف، ذات كثافة سكانية قليلة، بينما يتركّز الثقل السكانيّ على طرفي البلاد الشرقي والغربي التي يفصل بين طرفيهما حوالى 1000 كم، ما يعبّر عن طبيعة الانقسام الذي يعيشه الشعب الأوكراني حقيقةً. رأى الشرقيون – الذين يتكلمون الروسية ويتحدرون من أصول روسية – الثورة بعيدة جداً عنهم، وأنها ستبعدهم عن سندهم التاريخي الذي تقوم صناعاتهم الثقيلة وتجاراتهم، فضلاً عن ثقافتهم ولغتهم، على العلاقة معه.[6]

كان واضحاً أنّ القسم الغربي “المتأورب” من الشعب الأوكراني يتفوّق بشكل كبير على الأوكران الشرقيين الموالين لروسيا بقدرته على الحشد والتعبير عن خياراته السياسية وتظهير إرادته وتسييلها في الإعلام العالمي.

ارتفعت شعارات سياسية في ساحة “ميدان” في كييف تدعو إلى قطع العلاقات مع روسيا، ولاقتها تصريحات للحكومة الانتقالية اليمينية ولسياسيين لم يستفيقوا بعد من نشوة النصر بمطالب بإنهاء الاتفاق الذي يسمح لروسيا باستعمال شواطئ القرم كمدخل إلى المياه الدافئة ومقرّ لأسطولها البحري في سيفاستوبول، ما يعني فرض حصار بحري على روسيا. وسرعان ما هرعت الحكومة الانتقالية لتوقيع معاهدة الشراكة مع أوروبا بعد أيام على تشكيلها.

أدركت روسيا أنَّها خسرت معركة الرأي العام السياسي ومعركة الإعلام في أوكرانيا، فقررت أن تمارس ما تحسنه لتحافظ على أمنها القومي: دخلت قواتها العسكرية إلى القرم في آذار/مارس 2014، وضمّتها إلى أراضيها بترحيب من سكانها ذوي الأصول الروسية، رغم معارضة المجتمع الدولي، واحتفظت بقاعدتها البحرية.

أدرك المحور الغربي أنّ الخطوة الأوكرانية كانت في الوحل، وأنّ روسيا لم تكن بمستوى العجز الذي كان يتصوّره واضعو السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا، لتسكت عن هجوم مباشر على قدراتها العسكرية وحضورها البحري الاستراتيجي في مياه البحر الأسود. سكت الغرب عن ضمّ القرم كمن أقرّ بخطأ حساباته.

جرى لاحقاً انتخاب الوزير السابق المعروف بتوجهاته السياسية الموالية لأوروبا، رجل الأعمال بوروتشنكو، رئيساً جديداً لأوكرانيا، على الرغم من عدم انتهاء ولاية الرئيس يانوكو الذي لجأ إلى موسكو. عرفت هذه الفترة انفتاحاً يكاد يكون انفعالياً نحو الغرب، واستحكم الأميركيون والأوروبيون بسياسات أوكرانيا الداخلية، ووضعت الشركات الغربية أيديها على موارد البلد ومفاصله الاقتصادية.
هانتر بايدن: صيّاد الوحل!

لا تزال فضيحة رجل الأعمال هانتر بايدن، ابن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، الذي كان يومها نائب الرئيس والمسؤول عن ملفّ العلاقات الأوكرانية – الروسية في إدارة أوباما، والذي تحمّله موسكو شخصياً مسؤولية القرار بتصعيد الوضع ضدها وصولاً إلى قلب النظام، تعبّر ببلاغة عن مدى سرعة تغلغل رأس المال الأجنبي في اقتصاد البلاد بعد الثورة.

انضمّ هانتر بايدن إلى مجلس إدارة شركة “بوريسما”، عملاق الغاز الأوكراني، مباشرة بعد انتخاب بوروتشنكو في العام 2014، بعد أن اشترى 10% من أسهم الشركة، مستفيداً، بحسب اتهامات ترامب، من موقع والده السياسي ودوره الخاص في تلك المرحلة في توجيه سياسة البلاد[7].

لاحقاً، قام المدّعي العام الأعلى في أوكرانيا، القاضي تشوكين، بإصدار أوامر بفتح تحقيقات متعلقة بقضايا فساد مالي وإداري في شركة “بوريسما” وشركات أخرى باتت مرتبطة برأس المال الغربي. اتهمه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن بالفساد ورعاية مصالح روسيا ونظام يانوكوفيتش، وقامت الحكومة الأوكرانية بإقالته فوراً بطلب من بايدن والإدارة الأميركية.[8]

عزّز حكم بوروتشنكو النزعات اليمينية في السياسة الأوكرانية، ما أثمر في العام 2019 انتخاباً لزيلنسكي، الممثل الكوميدي المعروف بتوجهاته اليمينية المتشددة، رئيساً جديداً للبلاد. عيّن زيلنسكي متشددين قوميين أوكران في مفاصل الدولة الرئيسية، فأصبح زعيم يميني متهم بالفاشستية والنازية الجديدة كديمتري ياروش مستشاراً عسكرياً للجيش الأوكراني، ورفعت تماثيل لبانديراس الذي كان قائد القوات الفاشستية القومية الأوكرانية في الحرب العالمية الثانية في ساحة ميدان، في مسار كان من الطّبيعي لكلّ من يقرأ أحداثه ضمن سياقها التاريخي وحاضرها السياسيّ أن يتكهّن بأنَّها ستوصل إلى اللحظة الحالية التي أسهب الرئيس الروسي بوتين في شرح خلفياتها والتعبير عن رؤية روسيا ودوافعها في مواجهة سردية يمينيي أوكرانيا، ومن أمامهم دول الناتو وأوروبا، والتي توّجت بإعلان روسيا استقلال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا.
الثورة على أشكال رعاتها تقع

أثمرت البرامج الممنهجة الّتي اعتمدتها الولايات المتحدة، بمساعدة بعض الدول الأوروبية في أوكرانيا، جيلاً شاباً سهل التجييش والتحريك، معجباً بالثقافة الغربية، ويرى في موسكو “شيطاناً أكبر”، في نجاح واضح لسياسة طويلة الأمد لم تعتمدها واشنطن في دول شرق أوروبا فحسب، بل وصرّح مسؤولوها أيضاً في أكثر من مناسبة بإنفاق حكوماتهم مليارات الدولارات على برامج مماثلة في دول شرق آسيا وغربها، وفي دول أميركا اللاتينية، ومؤخراً في بعض الدول الأفريقية.

ويمكن بسهولة استقراء أهم معالمها التي تتكرّر حيثما يوجد للأميركي مصالح يرغب في تحقيقها عبر توجيه الرأي العام لشعوب هذه الدول:

– تعزيز النزعات القومية والوطنية، ودعم الخيارات اليمينية المتشددة إعلامياً وسياسياً.

– تعزيز خطاب الانفصال والتفرقة، ليس بين البلدان فحسب، بل بين مكونات البلد نفسه أيضاً.

– تثبيت قواعد وبعثات ومستشارين وخبراء في المجالات العسكرية والاقتصادية والادارية والقانونية لإحكام السيطرة على مفاصل هذه البلدان، ضمن إطار “مساعدة هذه البلدان على الحفاظ على أمنها واستقرارها”.

– توجيه الرأي العام الشعبي نحو الانضمام إلى الفلك السياسيّ الأميركيّ أو الأوروبيّ عبر معاهدات واتفاقيات كحال تايوان وأذربيجان، وضمّ العديد من هذه البلدان بالفعل إلى حلف الناتو، كما حصل مع بولندا وهنغاريا وتشيكيا، ومن ثمّ بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا، إضافة إلى نشر منظومات دفاعية وهجومية في هذه البلدان، كالدرع الصاروخية التي تهدف بشكل أساسي إلى إحباط أي قدرات ردعية روسية.
أسئلة كبرى على هامش الأزمة

يعيد هذا التصرّف الذي رعته الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أسئلة كبرى إلى الواجهة أو يفترض أقلّه. ما هو الهدف العام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في العالم؟ هو ليس الخير العام للإنسانية في كلّ الأحوال، ولكن إذا كان الخير النسبي الذي يعود بأكبر نفع وأقلّ ضرر على جميع الأطراف هو ما تدّعيه الولايات المتحدة كهدف سامٍ لأعمالها “الخيرية” المتنقّلة في مختلف قارات العالم، والذي يترجم عملياً بما يسمّيه الخطاب الغربي “السلام”، فما هو الثمن الذي يجب أن تدفعه الدول لتنعم بهذا السلام مع الولايات المتحدة؟ هل يوجد دليل على أنّ سياسة موسكو بعد العام 1991 تتضمّن نزعة عدائية تجاه الغرب؟

لا نبحث هنا في النيات، بل نتحدّث عن ترجمة عملية يمكن الاعتماد عليها لاستقراء سياسة روسية عدائية تحتاج إلى أن يتصرّف الغرب معها بهذه الطريقة، ويقدّمها بصورة “الشيطان الأكبر” لأجياله وأجيال العالم أجمع في العشرات من أفلامه وإنتاجاته الهوليوودية.

أمّا إذا أردنا البحث في السياسة الخارجية الأميركية تجاه روسيا، فلا نحتاج إلى بذل جهد استثنائي: يمكن تتبع المزاج السياسي الديمقراطي في الولايات المتحدة، ردّاً على توجّهات الرئيس السابق ترامب القاضية بتخفيف العدائية في السياسة مع موسكو، أو يكفي الاستماع إلى خطاب السيناتور الديمقراطي البارز آدم شيف خلال جلسة مساءلة الرئيس الأميركي السابق ترامب في العام 2020، وهو يقول بملء فمه: “نحن ندعم أوكرانيا وشعبها هناك ليحاربوا روسيا بالنيابة عنا بدلاً من أن نحاربها هنا”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.