لبنان بين اتفاقية هدنة 1949 والقرار 1701

 

بقلم الأستاذة رشا إبراهيم أبو حيدر*

بعد مرور أكثر من 18 عاما على صدور القرار 1701 ما نفذ منه وما لا ينفذ عاد الحديث الى ضرورة تطبيقه بحرفيته وخاصة فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها بين لبنان وسوريا ولبنان والكيان الصهيوني وسلاح حزب الله المتواجد في المناطق الحدودية جنوب لبنان. وإثر اندلاع الحرب في غزة 2023 وتدهور الأوضاع في الجبهة الجنوبية للبنان تسارعت الزيارات الدبلوماسية الى لبنان وخاصة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي أتى بمجموعة طروحات لاقت رفضا لبنانيا وخاصة فيما يتعلق بالأراضي اللبنانية المتنازع عليها من شبعا وكفر شوبا والغجر. ولكن أبرز ما يمكن الحديث عنه هو الموقف اللبناني الذي أعاد التذكير باتفاقية الهدنة لعام 1949 بين لبنان وإسرائيل الذي سهى عنها الطرف اللبناني في كثير من المواقف.

اذ لا يمكننا ان ننسى ان اتفاقية الهدنة جاءت ربطا بالصراع العربي الإسرائيلي وجاءت لمصلحة لبنان في الكثير من بنودها، ولعل الحديث عنها في هذا الوقت بالذات يمكن استخلاصه من مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اذ صرح في أكثر من حديث ان لا حل ولا يمكن تطبيق القرار 1701 الا بعد وقف الحرب العدوانية على قطاع غزة.

ولكن لماذا الحديث عن اتفاقية الهدنة 1949 وربطها بالقرار 1701؟ مع العلم ان اتفاقية الهدنة هي اتفاقية ملزمة لكلا الطرفين، لبنان وإسرائيل وأنها لم تلغ. حيث تنص المادة الثامنة (الفقرة الثانية) من اتفاقية الهدنة على ان:” يبقى هذا الاتفاق، الذي جرى التفاوض والتعاقد بشأنه وفقا لقرار مجلس الأمن بتاريخ 16 /11/ 1948 الذي يدعو إلى عقد هدنة لأزاله تهديد السلام في فلسطين وتسهيل الانتقال من حالة المهادنة إلى حالة السلام الدائم في فلسطين، موضع التنفيذ حتى يتوصل الطرفان إلى حل سلمى، مع التحفظ الوارد في الفقرة الثالثة من هذه المادة”.  وأكثر من ذلك فإن اتفاقية الهدنة ترتكز الى قرار مجلس الأمن رقم 54 لسنة 1948 الذي يندرج تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالاستناد الى هذا القرار ألزمت الدول العربية واسرائيل بوقف إطلاق النار والعمل على تثبيت الهدنة بين الدول العربية واسرائيل. وكذلك القرار رقم 62 لعام 1948 الذي ينص على إقامة هدنة دائمة فورية لا يجوز تخطيها.

وعلى الرغم من صدور اتفاقية الهدنة عن مجلس الأمن وإدراجها تحت الفصل السادس، شأنها شأن القرار 1701، حيث نصت المادة الثامنة (الفقرة الرابعة) من اتفاقية الهدنة:” إن لم يسفر المؤتمر المشار اليه في الفقرة الثالثة من هذه المادة عن اتفاق لحل النزاع يكون لكل من الفريقين الحق في تقديم القضية إلى مجلس أمن الأمم المتحدة ليعفيه من التزاماته نظرا لكون هذا الاتفاق عقد بناء على تدخل مجلس الأمن لتوطيد السلام في فلسطين”. وهذا دليل على ان الاتفاقية لم ترق الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. إلا أنّها ملزمة للطرفين لأنها صدرت على شكل عقد ملزم لطرفين ارتضيا الالتزام به، وأيضاً الزمهما مجلس الأمن بتنفيذها تحت طائلة تطبيق الفصل السابع من الميثاق.

كما يمكن القول ان اتفاقية الهدنة تعتبر المعاهدة الدولية الثنائية الوحيدة بين لبنان و”إسرائيل”. وتحمل صفات المعاهدة الدولية كافة كما نص عليها القانون الدولي، فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون المعاهدات «على أن المعاهدة هي اتفاق دولي معقود بصورةٍ خطية…»، والمادة 12 من هذا القانون، تنص على أن التوقيع هو أحد أشكال التعبير عن التزام الدولة بالمعاهدة. وهذا ما ينطبق على الاتفاقية اللبنانية -الإسرائيلية التي وقّعها ضباط عن الحكومتَين اللبنانية والإسرائيلية.

ولكن الموقف الإسرائيلي كان متقلبا بالنسبة لاتفاقية الهدنة، فهي في البدء سعت الى تطبيقها ثم ما لبثت ان تجاهلتها بحجج واهية أبرزها انها في حالة حرب وان الطرف اللبناني قد أخل بالتزاماته لان العمليات العسكرية كانت تنطلق من جنوب لبنان ضد إسرائيل وخاصة بعد اتفاق القاهرة الذي اعطى للمقاومة الفلسطينية حرية التحرك في جنوب لبنان.

والمفارقة أن مجلس الأمن قد ذكّر باتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل لعام 1949 عندما أصدر قراراه رقم 1701 في جلسته 5511 المعقودة في 11/8/ 2006، الذي أشار في ديباجته الى جميع القرارات السابقة بشأن لبنان، ولا سيما القرارين 425 و426، والقرار 520، والقرارات 1559 و1655 و1680 و1697، فضلاً عن بيانات رئاسة مجلس الأمن المتعلقة بنفس الحالة، ولا سيما البيان المؤرخ في 18 /6/2000، وأكد على مسألة احترام حدود لبنان المعترف بها دولياً. وبما ان مجلس الامن قد أعاد التذكير باتفاقية الهدنة فهي موافقة ضمنية على انها ما زالت سارية المفعول وهي الاجدر بالتطبيق لأنها تصب في مصلحة لبنان.

ومن المفيد اجراء مقارنة سريعة بين مواد اتفاقية الهدنة والقرار 1701 فإنه يتبين أن اتفاقية الهدنة في 23/03/1949 أعم وأشمل من القرار 1701، وذلك من خلال عدة أمور:

أ. إنّ اتفاقية الهدنة ألزمت الاطراف في لبنان وإسرائيل في المادة الثالثة (في فقرتها الثالثة) على عدم توجيه أي عمل حربي من أراض يسيطر عليها أحد الفريقين، أياً يكن هذا العمل الحربي، جوياً أو برياً أو بحرياً. في حين أنّ القرار 1701 توجه بالحديث مراراً وتكراراً الى الحكومة اللبنانية لوقف الاعتداءات التي تنطلق من لبنان على فلسطين، وأغفل ذكر الاعتداءات الإسرائيلية اليومية. ولعل اخر الاعتداءات التي قام بها العدو الإسرائيلي على ضاحية بيروت الجنوبية عندما اغتال قيادي من حماس وهي بحد ذاتها تشكل جريمة عدوان.

ب. لعلّ أبرز ما يميز اتفاقية الهدنة عن القرار 1701، هو مسألة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً والتي اعتبرت أنّ خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين، في حين ان القرار 1701 أغفل ذكر الحدود ذاتها التي ذكرتها اتفاقية الهدنة وخاصة الخط الازرق الذي وضع عام 2000 بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان.

إنّ اشارة اتفاقية الهدنة صراحة الى الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين، يعني أن مزارع شبعا وتلال كفر شوبا هي مناطق لبنانية، كما ورد في الملاحق البيانية لاتفاق العام 1923، وطبقاً لمذكرات رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق، بشارة الخوري، الذي اشار الى أن اتفاق الهدنة تضمن أمرين:”

  • الحد الفاصل بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي هو خط الحدود الدولية المعروفة.
  • لا يؤتى على ذكر جنود سوريين في الأراضي اللبنانية.”

وبما أنه لم يوقّع على الاتفاقية الا لبنان وإسرائيل فقط، ولم يرد أي تدخل من الجانب السوري فهذا يعني أن ما ورد في الاتفاقية يتعلق بلبنان فقط، وبحدوده الدولية المعترف بها والتي تشمل مزارع شبعا وتلال كفر شوبا.

إن القرار 1701 أبقى مسألة مزارع شبعا قيد المعالجة وتخضع لإرادة أطراف النزاع لأن مسألة الحدود تقررها الدول ذاتها، ولا شأن للأمم المتحدة في مسألة التحديد هذه.

ان الأراضي اللبنانية المتنازع عليها هي محور المفاوضات في الوقت الحاضر فيما تصر إسرائيل على احترام الخط الأزرق والنقاط محل خلاف، يجب ان لا يغيب عن البال ان هذا الخط هو خط وهمي لا يجب البناء عليه وخاصة ان الجانب اللبناني لا يعتد به، وان الاجدر بالاهتمام هو الخرائط المعتمدة من قيادة الجيش اللبناني وما نصت عليه اتفاقية الهدنة.

كما يجب التذكير وعلى الرغم من ترسيم الحدود اللبنانية البحرية مع إسرائيل الا انها لاقت اعتراضا من الجانب اللبناني والبعض دعا الى عدم الاخذ بها لأنها تفقد لبنان جزءا كبيرا من حقوقه البحرية.

ج-إن اتفاقية الهدنة حددت الآلية التي يجري فيها تبادل الأسرى بين لبنان وإسرائيل، وفرضت على الطرفين إجراء التبادل خلال 24 ساعة من التوقيع على الاتفاق. ويشمل تبادل الأسرى، أسرى الحرب الملاحقين جزائياً وكذلك الذين صدرت بحقهم أحكام جنائية أو غيرها.

وجاء القرار 1701 خالياً من هذا الأمر وكان تركيزه على إطلاق الجنود الإسرائيليين المختطفين، على أن يصار الى معالجة مسألة السجناء اللبنانيين في إسرائيل. وهذه من العيوب الكبيرة التي شابت القرار 1701، ذلك أنه غاب عن واضعي القرار أن لبنان وإسرائيل في حالة حرب، وأن الجنود الإسرائيليين يخضعون لقانون الحرب وأنهم أسروا أثناء عملية عسكرية، وأنهم ليسوا مختطفين لما لهذه العبارة من مسؤولية قانونية ودولية.

وكما ورد سابقاً فإنه ليس من الطبيعي أن يطلق لفظ سجناء على اللبنانيين الموجودين في السجون الإسرائيلية، وإنما أسرى حرب ومختطفين تم تقييد حرياتهم وأسرهم داخل الأراضي اللبنانية أثناء مواجهتهم للعدو الإسرائيلي، وهذا يشكل جريمة جنائية دولية تسأل عنها إسرائيل ويترتب عليها مسؤولية دولية. وبما ان مسألة الاسرى حلت في معظمها لم يعد هناك سبيل للحديث عنها طالما ان الأرقام تثبت انه لم يعد يتواجد أسرى في السجون الإسرائيلية، فيما عدا الحديث عن مقبرة الأرقام في إسرائيل التي فيها اشخاص معروفين بالأرقام وليس بالأسماء ولا دليل على وجود لبنانيين فيها.

د. أما فيما يتعلق بقوات الطوارئ الدولية، فإن القرار 1701 جاء أعم من اتفاقية الهدنة لأنه سعى الى تطوير مهامها، في حين ان اتفاقية الهدنة اقتصرت على تشكيل مجموعة مراقبة حددت أصولها في المادة 7 منها. ولكن ما يميز هذه الأخيرة عن القرار 1701 هو أنها قامت على طرفي الحدود بحيث يسهل عليها مراقبة تنفيذ القرارات، في حين اقتصرت قوات الطوارئ الدولية على الجانب اللبناني فقط بموجب القرار 1701، مما يستوجب القول إن الأمم المتحدة تفترض أن الاعتداءات تنطلق دائماً من الجانب اللبناني، وهذا الأمر يجافي الحقيقة.

ه. اما فيما يتعلق بسلاح حزب الله لقد خصه القرار 1701 بكافة بنوده، ولكن الأساس ان لبنان له الحق بمقاومته وطالما ان هناك شبرا من أراضيه تحت الاحتلال فهذا يمنحه الحق بالمقاومة. وان الدعوات الى اعادته الى ما وراء الليطاني فهو ضرب من الخيال طالما ان المقاومين هم من نسيج وسكان الجنوب اللبناني فكيف للمجتمع الدولي ان يطلب منهم مغادرة أراضيهم. أما بالنسبة للسلاح فهو شأن داخلي متروك للحكومة اللبنانية ان تناقشه مع حزب الله وفق استراتيجية دفاعية تصون حرية وسيادة لبنان. ولكن هل يمكن سحب سلاح حزب الله وما لهذه الدعوات من أثر على الوضع اللبناني ذلك ان الشارع اللبناني منقسم فيما بينه على سحب سلاح حزب الله ووقف تدخله بالشؤون اللبنانية، ولكن هل لهذا من سبيل، وخاصة ان حق المقاومة مكرس بالمواثيق الدولية وببيانات الحكومة المختلفة واي دعوة لسحب السلاح ستؤدي الى حرب أهلية؟ وللساسة اللبنانيين، وخاصة أثناء جلسات هيئة الحوار الوطني اللبناني، آراء تعتبر سلاح المقاومة الإسلامية (حزب الله) شأناً داخلياً لا علاقة للخارج به. ونشير إلى ان البيان الوزاري الذي نالت الحكومة اللبنانية الثقة على أساسه تضمن عبارات التأييد للمقاومة. وكان لرئيس مجلس الوزراء السابق، الشهيد رفيق الحريري، رأي في المقاومة أدلى به في 26/5/2000 عندما قال:” يجب ان لا ننسى أن المقاومة أدت الدور الأساسي في التحرير”. وأكد النائب سعد الحريري في إحدى اجتماعاته: “أنّ المقاومين الذين خاضوا المعارك ضد إسرائيل وكان لهم الإسهام الأوفر في إخراج قوات الاحتلال الصهيوني من لبنان دون قيد أو شرط هم مقاتلون وطنيون لبنانيون ناضلوا في سبيل حرية واستقلال لبنان، وحزب الله ليس ميليشيا “. ودعا أكثر من نائب، وفي مناسبات مختلفة، إلى حماية المقاومة.

بالختام، يجب على السياسيين اللبنانيين عدم اغفال الحديث عن اتفاقية الهدنة عام 1949 بالمفاوضات التي تدور اليوم والتي يقودها آموس هوكشتاين طالما ان مجلس الامن أكد عليها في القرار 1701 وبذلك يصبح لزاما ان تشكل أساسا عند تطبيق القرار 1701.ومن الضروري عدم الاعتداد بالخط الأزرق طالما ان اتفاقية الهدنة حددت بشكل جازم وصريح ما يعتبر أراض لبنانية، وان الخرائط التي بحوزة الجيش اللبناني تثبت ملكية لبنان لمزارع شبعا وتلال كفر شوبا اما فيما يتعلق ببلدة الغجر فهي لا تقتصر على الطرف اللبناني بل الجانب السوري أيضا وتدخل تحت القرارين 338 و 242 وبالصراع العربي الإسرائيلي. واما فيما يتعلق بسلاح حزب الله فهو رهن انسحاب العدو الإسرائيلي من هذه الأراضي ووقف اعتداءاته على لبنان برا وبحرا وجوا دون اغفال أطماع العدو التوسعية والنفطية التي يسعى فيها لوضع يده على ثروة لبنان النفطية.

*محامية وباحثة في القانون العام

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.