لماذا تصعّد موسكو وتيرة اختبار الأسلحة فائقة السّرعة؟

صحيفة الوفاق الإيرانية-

محمد منصور :

تسريع وتيرة اختبار هذه المنظومات الجديدة يعدّ مؤشراً على رغبة روسية واضحة في وضع المزيد من التعديلات على ميزان القوى الاستراتيجية العالمي.

عاد الحديث مرة أخرى في الأوساط العسكرية الدولية عن الأسلحة الروسية المتقدّمة فائقة السرعة، التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار/مارس 2018، وتم تأكيدها من جانب وزارة الدفاع الروسية في حزيران/يونيو من العام نفسه، ضمن “الاستراتيجية العسكرية البعيدة المدى”.

عودة الحديث مرة أخرى عن هذه المنظومات جاءت بعد إعلان الرئيس الروسي خلال اجتماع عقده مع خريجي المعاهد العسكرية الروسية، في حزيران/يونيو الماضي، عن إحراز تقدم في تطوير هذه المنظومات، وأن بعضها يقترب بالفعل من الدخول بشكل فعلي في الخدمة القتالية في الجيش الروسي، مثل مركبات “أفانجارد” الانزلاقية الأسرع من الصوت، وصواريخ “كينجال” الباليستية المحمولة جواً، وصواريخ “بوريفيستنك”، والبعض الآخر اقتربت عمليات اختباره من نهايتها، مثل الصاروخ الباليستي الثقيل العابر للقارات “سارمات” وصواريخ “تسيركون” البحرية.

حديث بوتين جاء بالتزامن مع تصريحات رئيس المديرية الرئيسية للتدريب القتالي في وزارة الدفاع الروسية، إيفان بوفالتسيف، والتي أعلن خلالها أن الاختبارات على المنظومات السالف ذكرها سيتم تكثيفها خلال الصيف الجاري، بحيث يتم الانتهاء من هذه الاختبارات بشكل كامل نهاية العام الجاري. تسريع وتيرة اختبار هذه المنظومات الجديدة، رغم المعوّقات التي فرضها تفشي جائحة كورونا، يعدّ مؤشراً على رغبة روسية واضحة في وضع المزيد من التعديلات على ميزان القوى الاستراتيجية العالمي، وخصوصاً في مواجهة دول مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة.

التركيز الروسي على تحديث الأسلحة الاستراتيجية الفوق صوتية وتطويرها، سواء كانت نووية أو تقليدية، يأتي في إطار الاستراتيجية العامة للتسليح الروسي، والتي تحدث عنها أواخر العام الماضي الرئيس فلاديمير بوتين. وبموجبها، وصلت نسبة المعدات الجديدة والمحدثة العاملة في كل أقسام الجيش الروسي إلى نحو 70%، ووصلت هذه النسبة في قطاع القوات النووية الاستراتيجية إلى ما يقارب 85%.

هذه الاستراتيجية تستهدف تحقيق عدة أهداف أساسية، منها الحفاظ على جاهزية قتالية عالية للقوات النووية الروسية، سواء على المستوى الباليستي أو البحري أو الجوي، لإدامة التكافؤ الاستراتيجي بين القوة الروسية وما يناظرها في دول أخرى. كذلك، تستهدف موسكو التطوير الجذري لقوة ردع غير نووية تعتمد بشكل رئيسي على الأسلحة الدقيقة الأسرع من الصوت.

من الأهداف الاستراتيجية الروسية في مجال التسليح، تسريع وتيرة تحديث المعدات والمنظومات العاملة حالياً في الجيش الروسي، لتجاوز تداعيات تفشي جائحة كورونا على المستوى الحالي لجاهزية وحداثة تسليح كل أفرع الجيش الروسي، وكذلك تكثيف الأبحاث والدراسات المتعلقة بالنزاعات المسلحة الحديثة، وتطبيق الدروس المستفادة منها على المناهج المطبقة في المعاهد العسكرية الروسية ومراكز التصنيع والتصميم الخاصة بالصناعات الحربية.

صواريخ “تسيركون” البحرية.. قريباً

من أهمّ المنظومات الصاروخية التي تعتزم موسكو إنهاء اختباراتها بشكل كامل هذا العام، صواريخ “تسيركون” البحرية الفرط صوتية التي تعد بمثابة نقلة ضخمة في عالم التسليح البحري، نظراً إلى خصائصها الفريدة على مستوى المدى والدقة وطريقة التحليق. بدأت الاختبارات التمهيدية على هذا الصّاروخ بسرية تامة أوائل شباط/فبراير 2020، لكنْ تمَّت أول تجربة أساسية على هذا النوع من الصواريخ في السادس من تشرين الأول/أكتوبر 2020.

خلال هذه التجربة الناجحة، ظهرت الخصائص الفريدة لهذا الصاروخ الذي تمكن من قطع مسافة تبلغ 450 كيلومتراً، في زمن قدره 4 دقائق ونصف الدقيقة فقط، وهو ما لا يتيح للدفاعات المعادية سوى أجزاء من الثانية للتصدي له، وخصوصاً أنَّ سرعته القصوى تصل إلى 9 أضعاف سرعة الصوت، ناهيك بأنه حلَّق خلال هذه التجربة على ارتفاع 28 كيلومتراً، وهو ارتفاع شاهق يرجّح أن نمط التحليق الخاص به يتطلَّب التحليق على ارتفاعات كبيرة، ومن ثم الانخفاض بشكل حادّ عند الاقتراب من الهدف.

تشير التقديرات إلى أنَّ مدى هذا الصاروخ يصل إلى 1000 كيلومتر، وسقف تحليقه الأقصى يتراوح بين 35 و40 كيلومتراً. لا تتوفر معلومات كافية عن الرأس الحربي الخاص به، ولكنَّ التقديرات تشير إلى أنَّ زنته تتراوح بين 300 و400 كيلوغرام، وأنه قد يكون معتمداً على تقنية “الطاقة الحركية”، إذ يتم استغلال السرعة الفائقة لهذا الصاروخ في تحويل كتلة معدنية صلبة متركزة في مقدمة الصاروخ إلى مقذوف مدمر له القدرة على تدمير الهدف بشكل كامل ومماثل لما قد تتسبب به الرؤوس الحربية التقليدية، وهذه التقنية مستخدمة في بعض أنواع قذائف الدبابات.

في المجمل، تمت 3 عمليات إطلاق لهذا النوع من الصواريخ في بحر “بارنتس” عن متن الفرقاطة الجديدة “الأدميرال جورشكوف” من الفئة “22350”، إذ تم تزويد هذه الفرقاطة بخلايا إطلاق عمودية لإطلاق هذا النوع من الصواريخ، لتكون بذلك أول قطعة بحرية روسية تتسلَّح به، علماً أنه تم الإعلان في آذار/مارس الماضي عن خطط روسية لتسليح أحدث غواصة نووية روسية من الفئة “ياسن-أم” بهذا النوع من الصواريخ، على أن يتم تعميم هذا الصاروخ كتسليح رئيسي للفرقاطات والغواصات الروسية المستقبلية.

“الخناجر الباليستية” المحمولة جواً

في حزيران/يونيو الماضي، لوحظ بشكل مفاجئ تسلّح المقاتلات الروسية “ميج-31” أثناء مشاركتها في مناورات البحرية الروسية قبالة الساحل السوري بالصاروخ الباليستي الأسرع من الصوت “كينجال”. وعلى الرغم من أن التجارب على هذا الصاروخ بدأت فعلياً أواخر العام 2017، فإنَّها استمرت خلال السنوات اللاحقة بشكل مستمر، لتكون مناورات الساحل السوري هي تجربة الإطلاق الأحدث لهذا الصاروخ الفريد من نوعه، وهو من فئة الصواريخ الباليستية ذات القدرات النووية، إذ يصل مداه إلى 2000 كيلومتر، وتصل سرعته القصوى إلى 10 أضعاف سرعة الصوت.

يمكن تسليح هذا الصاروخ بنوعين من أنواع الرؤوس الحربية؛ الأول رأس حربي تقليدي تبلغ زنته نصف طن، والآخر رأس نووي تتراوح قدرته التدميرية بين 100 و500 كيلو طنّ. اللافت في هذا الصاروخ أنّه يمكن زيادة مداه إلى نحو 3000 كيلومتر، إذا ما تمّ إطلاقه عن متن القاذفات الاستراتيجية “تي يو-22”. وحينها، يكون فعلياً أكبر صاروخ باليستي مطلق جواً من حيث المدى على مستوى العالم.

دخل هذا النوع من الصواريخ في الخدمة بسلاح الجو الروسي على نطاق ضيق في أواخر العام 2017، حين تم تسليح سرب مكون من 10 مقاتلات “ميج-31” بهذه الصواريخ ضمن قوات المنطقة العسكرية الجنوبية، وتمت زيادة عدد الطائرات المسلحة بهذا النوع في مطارات أخرى تقع في نطاق المنطقة العسكرية الروسية الوسطى، لكن مؤخراً، وفي ضوء التوتر المتصاعد على الحدود الروسية مع أوكرانيا، تم الإعلان في حزيران/يونيو الماضي أنَّ مطارات المنطقة العسكرية الغربية سوف يتم تسليحها بهذا النوع من الصواريخ، ما سيوفّر للقيادة العسكرية الروسية القدرة على تهديد كلّ قواعد حلف الناتو الموجودة في أوروبا الشرقية.

تطوير التسليح الباليستي الروسي

من أهمّ التحديثات التي تعتزم القيادة العسكرية الروسية تطبيقها على المستوى التسليحي، تلك المتعلّقة بالصواريخ الباليستية، إذ تستهدف موسكو بحلول العام 2025 ألا يكون هناك أي أنظمة صواريخ سوفياتية التصميم على الإطلاق في الترسانة الروسية.

التركيز الروسي في هذه المرحلة يبقى حول تعميم بعض المنظومات الباليستية الجديدة، وخصوصاً صاروخ “سارمات” الباليستي العابر للقارات، والَّذي يصل وزنه إلى 220 طناً، ويعمل بالوقود السائل، ويصل مداه إلى نحو 11 ألف كيلومتر، ويتم توجيهه بعدة طرق، منها التوجيه الذاتي أو التوجيه عن طريق منظومة “جلوناس” لتحديد المواقع. سيحلّ هذا الصاروخ محل الصاروخ الأقدم “ساتان”. من أهم مزايا “سارمات” دقّته التي لا تتجاوز نسبة الخطأ فيها 10 أمتار، وإمكانية تحميله بمجموعة من الرؤوس الحربية الانشطارية، تصل زنتها إلى 10 أطنان.

إمكانيات هذا الصّاروخ على مستوى ارتفاعات تحليقه الشاهقة، والتي تتيح له التحليق عبر أجواء القطب الجنوبي واختراق دفاعات الناتو الجوية، لا تعدّ فقط أهم مميزاته، فهذا الصّاروخ يعتبر المنصة الأساسية لإطلاق المركبات الانزلاقية الجديدة “أفانجارد”، وهي ابتكار ثوري جديد يتمثّل بتزويد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بمركبات عالية السرعة تحل محل الرؤوس الحربية التقليدية، وتتميز هذه المركبات بسرعتها الفائقة التي تصل إلى 20 ضعف سرعة الصوت، وكذا بهامش مناورتها الكبير الذي يتيح لها التحليق على ارتفاع عشرات الكيلومترات في طبقات كثيفة من الغلاف الجوي، على عكس الرؤوس الحربية التقليدية للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والتي تطير باتجاه الهدف على طول مسار باليستي.

حتى الآن، تمت عدة اختبارات تمهيدية على صواريخ “سارمات” ومركبات “أفانجارد” الانزلاقية، وتستهدف موسكو القيام بمزيد من الاختبارات على الصاروخ الجديد العام الجاري والعام القادم، على أن يتم إدخاله في الخدمة بشكل رسمي أوائل العام 2023، في حين تعتزم القيادة العسكرية الروسية تسليح فوجين من أفواج الصواريخ الباليستية بالمركبات الانزلاقية “أفانجارد” بحلول العام 2027.

من المنظومات الباليستية المهمة التي تعمل موسكو على اختبارها خلال العام الجاري، هي منظومة صواريخ الكروز “بوريفيستنك” التي تمت التجارب الأولية عليها في العام 2019، وهي منظومة مخصّصة للهجوم على المرافق العسكرية العالية الأهمية، وقواعد الدفاع الجوي والصواريخ، وتجمعات السفن الحربية.

يتميز صاروخ هذه المنظومة بأسلوب طيران متعدّد المراحل والارتفاعات، وهو في هذا يختلف تماماً عن الصواريخ الباليستية. حتى الآن، لا تتوفّر أرقام محدّدة عن مداه الأقصى، لكنَّ التقديرات تشير إلى أنه يعمل بالوقود النووي، وبالتالي سيكون مداه الأقصى كبيراً جداً، إذ يتعدى 10 آلاف كيلومتر.

من النقاط الجديرة بالذكر في هذا الصّدد، أنَّ موسكو بدأت بتسليح قواعد الصواريخ الباليستية الخاصة بها بمنظومات الليزر “بيريزفت” التي أُعلن عنها لأول مرة في تموز/يوليو 2018، وهي منظومة ذاتية الحركة مضادة للصواريخ تتألّف من منصَّة إطلاق لأشعة الليزر، مثبّتة على متن شاحنات من نوع “كاماز”، تقوم بمعاونة وحدات للرادار وإدارة النيران برصد القذائف المعادية بكلّ أشكالها واستهدافها، مثل قذائف “المورتر”، وقذائف المدفعية الصاروخية، وصولاً إلى الصواريخ التكتيكية القصيرة والمتوسطة المدى والصواريخ الباليستية والجوالة. وقد تم تسليح ما لا يقل عن 5 قواعد للصواريخ الاستراتيجية الروسية بهذه المنظومة الجديدة، علماً أنَّه تم اختبارها ميدانياً في سوريا.

وتيرة عمليات التحديث والاختبار هذه تبدو متأثرة بشكل أو بآخر بالتجاذبات بين موسكو وحلف الناتو، سواء في القطب الشمالي أو أوكرانيا أو مناطق أخرى من العالم، مثل أفغانستان.

المؤكد أنَّ هذا الكمّ من المنظومات الاستراتيجية الجديدة سيفرض على حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية تسريع العمليات المقابلة لإنتاج منظومات مناظرة، وخصوصاً المنظومات القادرة على التصدي للصواريخ الباليستية، وهو ما يجعل المشهد التسليحي العالمي منخرطاً في سباق للتسلّح، رغم أنَّ معظم دول العالم يعاني بشكل أو بآخر بفعل التداعيات الصحية والاقتصادية لتفشّي جائحة كورونا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.