ما يراد من الحرب هو تفتيت السودان

صحيفة البعث السورية-

هيفاء علي:

تتواصل المعارك في السودان، وخاصّة في الخرطوم ودارفور، إذ يبدو أن طرفي النزاع -عبد الفتاح البرهان وحميدتي- مصمّمان على مواصلة القتال حتى القضاء على آخر سوداني. ورغم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بوساطة أطراف عربية، إلا أن الاشتباكات تجدّدت بين طرفي النزاع. وبحسب التقارير الإعلامية، فقد فرّت “عصابة كوبر” في 23 نيسان 2023، بعدما فتح مجهولون أبواب زنزانات السجن التاريخي بالخرطوم، وانتشر المساجين في شوارع العاصمة السودانية. وكان يمكن أن تكون هذه الحادثة قصة من بين عديد القصص التي تحدث في ضجيج الحرب، لو أن “عصابة كوبر” لم تكن مكوّنة من مجرمين من نوع خاص، فثلاثة من أفرادها مطلوبون من قبل المحكمة الجنائية الدولية، كما تتضمن العصابة بعض الشخصيات البارزة من نظام عمر البشير. بعبارة أخرى، يمكن القول إنه في خضم الغارات الجوية والنهب ونيران المدفعية، برزت مرة أخرى أشباح الذين أرادوا، خلف المُنظّر حسن الترابي، جعل المجتمع يتماشى مع مُثُلهم الأعلى للإسلام السياسي، وهم نفس الإسلاميين الذين رفضتهم ثورة 2018، والذين ينظر إليهم السودانيون منذ ذلك الحين على أنهم وراء معظم مصائبهم.

كما تمّت عمليات إطلاق سراح أخرى منذ اندلاع الاشتباك بين الجنرالين في الخرطوم في 15 نيسان الماضي، وفي كلّ مرة، كان من بين مجرمي الحق العام أعضاء سابقون من نظام البشير، ولاسيما أعضاء من جهاز الأمن والمخابرات الوطني. وفي التفاصيل، تدخلت مجموعة مسلحة في سجن أم درمان، وأطلقت سراح عناصر من جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذين كانوا محتجزين هناك، والذين حُكم عليهم بالإعدام. كان من الواضح أن الهدف هو التستّر على إطلاق سراح مجموعة معينة تتكوّن من 35 عضواً قديماً في جهاز الأمن والمخابرات الوطني.

ومن ثم قامت هيئة الأركان العامة للجيش الوطني، في حربها مع قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، بإعادة تفعيل جميع القوات الموازية وأجهزة المخابرات والمجموعات المرتبطة بنظام عمر البشير، أي جهاز الأمن والمخابرات الوطني بالطبع، ولكن أيضاً قوات الدفاع الشعبي، وهي قوات تمّ إنشاؤها في أعقاب وصول البشير إلى السلطة في 1989، و”كتائب الظل”، المرتبطة أصلاً بالجبهة الإسلامية القومية بزعامة حسن الترابي حتى أفول نجمه في عام 2000، ثم بحزب المؤتمر الوطني بزعامة البشير.

وقد كان التوتر بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، الذي يغذّيه عداء مؤسساتي وشخصي، في تصاعد منذ مدة، وكان للخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش الوطني، وحول القيادة والمدة التي ستستغرقها العملية، أثر حاسم. ويحمل انقلاب تشرين الأول 2021 بصمة الاثنين، وقد ختم هذا الانقلاب التحالف بين اللواء البرهان، رئيس مجلس السيادة آنذاك، وعلي كرتي، وهو سياسي مخضرم في الجبهة الإسلامية الوطنية التي يتزعمها الترابي، والذي أصبح مسؤولاً رفيعاً في حزب المؤتمر الوطني. تم حلّ الحزب الرئاسي في عام 2019 خلال فترة التحول الديمقراطي، وصودرت ممتلكاته. وقد غادر كوادره الذين لم يتمّ اعتقالهم السودان، بأمر من الحزب، وتوجّه كثير منهم إلى المنفى في تركيا. ومع ذلك، لم تختف هياكل الحزب.

ومن ثم، هيمنت مجموعة علي كرتي على باقي الجماعات التي كانت في “المنفى!”، في تركيا، حيث كان منسّقاً لقوات الدفاع الشعبي في التسعينيات، ووزيراً للعدل ووزيراً للخارجية. أمرهم الحزب في أعقاب انقلاب تشرين الأول 2021 بالعودة إلى البلاد، ففعلوا. وهكذا ظهر علي كرتي مجدداً في السودان دون أن يتعرّض للمضايقة، مع أنه كان تحت طائلة مذكرة توقيف منذ عام 2019.

بعد فترة وجيزة، ألغى الجنرال البرهان عمليات التطهير التي نُفّذت في الإدارة. وصار السودانيون يكتشفون يوماً بعد يوم أن هؤلاء، وأولئك الذين عيّنتهم الحكومة المدنية لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، قد أقيلوا لمصلحة سلفه الإسلامي.

لقد كان المجلس العسكري بحاجة إلى كوادر حزب المؤتمر الوطني ليحكم البلاد بعد الانقلاب. قبل كل شيء، أعيدت السلطة إلى الجناح المدني للإسلاميين الذي كان علي كرتي يجّسده، من خلال السماح لهم بفتح جميع الجمعيات وجميع المنظمات شبه الحكومية، مثل جماعة “الدعوة الإسلامية”، التي كانت تحصل على جزء من الزكاة، وحافظت على القاعدة الاجتماعية لنظام البشير من خلال توزيع الوظائف والقيام بالأعمال الخيرية. وبخطوات صامتة، استعادوا موقعهم في البلاد. وقبل اندلاع هذه الحرب مباشرة، أثاروا التوترات، على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الأرض، حيث دعت شخصيات إسلاموية إلى العمل المسلح في الأسابيع التي سبقت 15 نيسان.

توضح بعض المصادر السودانية أنهم لن يغفروا لعبد الفتاح البرهان قبوله المحادثات في جدة التي نظمتها المملكة العربية السعودية حول موضوع تطبيق القانون الإنساني، حتى لو لم يتمّ احترام الاتفاق الناتج عن هذه الاجتماعات في الميدان. وبأي حال من الأحوال، لا يتصوّر أحد قبول عودة الجيش والإسلاميين إلى السلطة حين تصمت المدافع بعد كارثة هذه الحرب الجديدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.