مناورة جنرال

ميشال-عون

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ

جان عزيز:

بدأت القصة بينه وبينهم ذات غروب من يوم رمضاني طويل. كانت المناسبة إفطاراً «تيارياً» أقيم في أنقاض ما كان فندق سان جورج الشهير، على خليج مار جرجس المحاصر بين احتلال «سوليدير» وغزوة «زيتوناي باي». كانت الشمس قد استودعت صحنها غسق 12 آب الماضي، عندما أعلن ميشال عون بعبارات قليلة: «بالنّسبة إلينا ليس مقبولاً أن تُرفض النّسبية. فهناك شعب ينتظر كي يُمَثّل كلّه. لا نريد قانون انتخاب غير عادل. إذا كان هناك قانون آخر، فلهم الحق في أن يطرحوه، لكن يجب أن يكون عادلاً لكلّ الطّوائف ولكلّ الأقليات. من هنا، وفي حال رفض النسبية فإن العودة إلى قانون اللّقاء الأرثوذكسي تصبح طبيعية. هذا الأمر الذي لم نكن نرغبه، ولكن لا أحد له الحق في أن ينكر علينا التّمثيل الصّحيح».
في اليوم التالي لم يتوقف المعنيون كثيراً عند هذا الكلام. بعضهم عدّه مزايدة. أو للاستهلاك البيروتي. أو حتى تعبيراً عن مأزق. أكثر الفطناء رؤيوية، قالوا إنها مناورة جنرال، فيما هدفه الحقيقي في مكان آخر، لا بد أن ينكشف سريعاً.
مرت الأيام. كانت لجنة بكركي تبحث وتدرس. كذلك مجلس الوزراء. وكانت المعارضة تنام على حرير ستيني، وعلى «دفرسوار» جنبلاطي في قلب الأكثرية. بتكامل الاثنين، كانت المعارضة قد أعفت نفسها من أي جهد انتخابي، لا تفكيراً ولا تقريراً. حتى إن ما سماه الحريري الابن ذات شباط «خيانة» من بيك المختارة، تحول يومها إعانة كبرى في إطار تكتيك إبقاء القديم على قدمه. بعدها تنبه الجميع إلى أن «مناورة» الجنرال تتقدم: فجأة صارت خياراً أول في بكركي. لم يقلق الحريريون. ظلوا يفكرون: في أي لحظة يسقطها موقفا الجميّل وجعجع. في اجتماع رباعي في الصرح ـــ الذي لم يعد يعرفه المستقبليون جيداً ـــ أكان على مستوى الأقطاب أم ممثليهم، يكفي أن تتحدث الكتائب أو القوات عن العيش المشترك ومقتضيات الميثاق وروح 14 آذار، أو غيرها من عدة النصب المعتمدة بنجاح منذ عقدين، ليسقط «الأرثوذكسي»، بل حتى ليخجل طارحوه. وإذ، لم يحصل أي من ذلك. لا بل العكس تماماً هو ما كان. حتى اضطر جعجع للذهاب إلى الحريري الابن في وطنه الثاني، ليقول له: نحن محشورون. ومع ذلك، ظلوا يعتقدون أنها مناورة.
رغم تلك التطورات، لم تتحرك المعارضة الحريرية. في قعر رأسها فكرت أن عون سجل نقطة مسيحية لا غير. أما طريق الهدف لتحقيق «الأرثوذكسي» فلا تزال في حسبانهم مقفلة بعقبة كبرى اسمها موقف نبيه بري. كان الحريريون يرددون في سرهم، أن صاحب طرح لبنان دائرة واحدة على أساس النسبية، وصاحب اقتراح تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وصاحب «الحساب الجزيني» العالق مع الرابية، وصاحب المطرقة الحاسمة في الموضوع… صاحب كل تلك سيكون السد الذي سيسقط مناورة الجنرال.
مساء الأحد في 6 كانون الثاني الماضي، كانت الاحتفالات بعيد الغطاس قد انتهت، وكانت رتبة عماد يسوع على يد «يوحنا السابق» مقدمة لتعميد الاقتراح الأرثوذكسي مشروعاً باسم كل المسيحيين. ذاك المساء كانت لجنة بكركي على موعد مع اجتماع في الصرح، وكان غبطته حاضراً راعياً مباركاً مترئساً. فجأة، رمى ألان عون قنبلته التكوينية، على طريقة «بيغ بانغ»: بكل سرور نبلغكم أن حلفاءنا جاهزون للتصويت معنا جميعاً على «الأرثوذكسي» بعد غد الثلاثاء في اجتماع لجنة التواصل النيابية. هلل الجميع للبشرى السارة. لكن نصف المعنيين لم ينم تلك الليلة. بعد الاجتماع فتحت كل الخطوط الهاتفية. فاضت «داتا» الاتصالات حتى الثمالة. كان المطلوب أولاً معرفة سر المفاجأة، وثانياً مدى صلاحيتها الزمنية. قبل أن يكتشف المعنيون أن اجتماعاً تنسيقياً كان قد استضافه جبران باسيل قبل 24 ساعة، حضر الطلق الوطني لولادة «الأرثوذكسي».
انتظر الحريريون تلك اللحظة ليفكروا للمرة الأولى جدياً في الأمر. توقفوا عنده ملياً، وصاروا يحللون: حسناً، لقد توضحت كل أهداف مناورة الجنرال. بضربة واحدة حقق التالي: أسقط قانون الستين، عزز حضوره المسيحي الشعبي، حشر حلفاءنا المسيحيين في شارعهم وبيئتهم، رمى بيننا وبينهم أكثر من مادة عتب وتباين، ألقى بعباءته الزعاماتية على موقف بكركي كما تظلل بعباءتها، وحد حلفاءه خلف موقفه، أقام هذه الهوة في فارق الانطباع بين قدرته على إلزام حلفائه، وبين عجزنا عن التزام اتفاق مع حلفائنا، وفتح الباب مشرعاً أمام ضرورة صوغ قانون جديد للانتخابات… لكن ظل الحريريون يتساءلون: حسناً، إذا كان «الأرثوذكسي» مناورة جنرال، فما هو هدفه الفعلي؟ أين سيضرب حقيقة؟ ما هي خطته «ب»؟
أمس، وأمس فقط، بدأ يفكر البعض همساً: ماذا لو لم يكن عون يناور؟ ماذا لو كان يريد فعلاً إقرار «الأرثوذكسي»؟ معقول؟ جنون… علماً أن الجنون علمياً هو بطء شديد في التفكير أو الفهم أو الاستيعاب أو الإدراك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.