من 1980 إلى 2021.. العراق وإيران بين زمنين

موقع قناة الميادين-

عادل الجبوري:

حين سقط نظام الحكم في بغداد علم 2003، نأت طهران بنفسها عن الحسابات والاصطفافات الضيقة، واختارت أن تتعاطى مع المعطيات والحقائق الجديدة في العراق، بما يساهم في طي صفحات أزمات الماضي ومشاكله.

بينما كان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يواصل لقاءاته مع كبار المسؤولين الإيرانيين في إطار زيارته للجمهورية الإسلامية الإيرانية منتصف الشهر الجاري، بناءً على دعوة رسمية كان قد تلقاها من الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي بعد إعلان فوزه مباشرة في الانتخابات الرئاسية في 18 حزيران/يونيو الماضي، كانت مختلف المؤسَّسات الحكومية وغير الحكومية الإيرانية هناك تواصل جهودها على قدم وساق استعداداً لإحياء الذكرى السنوية الحادية والأربعين لإندلاع الحرب العراقية الإيرانية؛ تلك الحرب التي دامت 8 أعوام كاملة، وحصدت أرواح مئات الآلاف، وخلفت خسائر وأضراراً مادية هائلة لكلا الطرفين.

وما بين الاحتفاء بالكاظمي اليوم واستذكار حرب الأمس، هناك الكثير من المفارقات والمعاني والدلالات التي تستحق التوقف عندها والتأمل فيها، لإستيعاب ذلك التحول الكبير بعد 4 عقود من الزمن، كانت حافلة بكمّ كبير جداً من الوقائع والأحداث المثيرة، كإحتلال الكويت في صيف العام 1990، ثم حرب تحريرها في العام 1991، وحرب إسقاط نظام صدام في العام 2003، إلى جانب الحصار والعقوبات الاقتصادية وشتى أشكال الضغوطات الغربية – الدولية ضد طهران، ناهيك بالحروب والصراعات الإقليمية التي لم تكن بغداد وطهران بعيدتين عنها بنسبة ومسافات متفاوتة.

ما يتفق عليه الطرفان وقوى وأطراف دولية وإقليمية عديدة، هو أن حرب الثمانية أعوام (1980-1988) كانت حرباً عبثية لا مبرر لها، لم تفضِ إلا إلى مآسٍ وكوارث ونكبات سياسية واقتصادية واجتماعية على صعيدي الفرد والمجتمع، ما زالت بعض آثارها ماثلة إلى اليوم، رغم مرور أكثر من 33 عاماً على وضع أوزارها.

وما يتفق عليه الطرفان أيضاً هو أنه كانت هناك إرادات ومخططات عالمية لشن الحرب، لعلَّ من بينها التصدي للثورة الإسلامية الفتية بزعامة الإمام الخميني (رض)، التي لم يكن قد مرَّ على انتصارها حين اندلعت الحرب في أواخر شهر أيلول/سبتمبر 1980 سوى عام و7 شهور.

تبلورت تلك الإرادات والمخططات العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عبر أشكال وصور ومظاهر مختلفة، ولا سيما بعد أن تبين باكراً خطأ حسابات الدوائر بإمكانية إطاحة نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية الجديدة بحرب خاطفة يرافقها تحريك للشارع الإيراني، وبالتالي إعادة الشاه الهارب (المخلوع)، كما حصل في عملية انقلاب 1953 الَّذي أطاح الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق، بتدبير من المخابرات الأميركية والبريطانية.

وفضلاً عن الآثار والخسائر المادية والبشرية المباشرة للحرب، فإنَّ هناك آثاراً غير مباشرة، تمثّلت باتساع نطاق الوجود الأميركي في المنطقة، وتزايد بؤر الصراع والفوضى والاضطراب، وتنامي النزعات الاستبدادية، وتسارع وتيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، من دون أن يعني ذلك كله أن الأمور كانت تسير بالاتجاه الذي يخدم وجود وقوة ومصالح واشنطن وحلفائها وأصدقائها وأتباعها وأدواتها في المنطقة، بل إن انتصار الثورة الإسلامية وتكالب أطراف عديدة لإجهاضها وهزيمتها، دفع القيادة الإيرانية مدعومةً بتيار جماهيري ثوري واسع إلى تحويل التهديدات والتحديات إلى فرص وآفاق للتفوق والنجاح والانتصار والحضور والتأثير في مختلف المحافل والميادين، لتغدو بعد 42 عاماً قوة فاعلة ومؤثرة في محيطها الإقليمي وفي عموم الفضاء الدولي.

يضاف إلى ذلك نشوء تيارات وحركات سياسية ثورية، استلهمت قيم الثورة الإسلامية الإيرانية ومبادئها في مجمل عملها وتحركها السياسي والجهادي والثقافي والفكري، بصرف النظر عن الانتماء المذهبي الطائفي أو القومي أو العرقي، كما هو الحال مع “حزب الله” اللبناني، وحركات المقاومة الفلسطينية، والتيارات السياسية الإسلامية العراقية، وغيرها.

ولم تبنِ طهران عموم مواقفها وتوجهاتها استناداً إلى ردود أفعال ارتجالية، وتراكمات سلبية سابقة، وانفعالات لحظية آنية، إنما وفق ثوابت وقراءات موضوعية وتقييمات واقعية. وما يؤكد ذلك أن نظام صدام فشل في استدراجها وجرها إلى صفّه بعد غزوه دولة الكويت، رغم أن الأخيرة دعمت وساندت نظام صدام سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلامياً في حربه ضد إيران. وبينما سعى صدام لإثارة نزعة الثأر والانتقام لديها، فإنها تعاطت مع الحدث من زاوية أخرى أكثر عقلانيةً وحكمةً.

وفي ما بعد، حين سقط نظام الحكم في بغداد علم 2003، نأت طهران بنفسها عن الحسابات والاصطفافات الضيقة، واختارت أن تتعاطى مع المعطيات والحقائق الجديدة في العراق، بما يساهم في طي صفحات أزمات الماضي ومشاكله، وبما يكفل ترسيخ الأمن والاستقرار الإقليمي، ويحول دون إغراق المنطقة في المزيد من الفوضى والاضطراب ارتباطاً بالتواجد الأجنبي، وكذلك بما يساعد جارها الغربي على استعادة عافيته بعد عقود من الحروب العسكرية والعقوبات الاقتصادية والأزمات المجتمعية، وبالتالي، فإنّ طهران أسَّست لنهج عقلاني في علاقاتها مع بغداد، رغم حجم التعقيدات والتراكمات والضغوطات والتدخلات الخارجية السلبية.

إنّ طهران أول من سارع إلى تعزيز بعثته الدبلوماسية في بغداد وتفعيلها، إضافة إلى فتح قنصليات في النجف وكربلاء والبصرة وأربيل، ومساعدة العراق في بعض المجالات الخدماتية الأساسية، مثل قطاع الطاقة الكهربائية وتنشيط حركة التبادلات التجارية، بما يكفل تأمين احتياجات السوق العراقي من السلع والبضائع المختلفة، وأكثر من ذلك وقوفها إلى جانب العراق في حربه ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، بعد اجتياحه واحتلاله عدة مدن عراقية في صيف العام 2014. وقد كان للدعم والإسناد العسكري واللوجيستي الإيراني أثر كبير في تسريع إلحاق الهزيمة بذلك التنظيم.

ولعل القيادة الإيرانية تعاطت مع مكونات الشعب العراقي المختلفة بالروحية نفسها، ولم تنطلق في دعمها ومساندتها من اعتبارات وحسابات مذهبية وطائفية، وضمن أفق محدود. وأوضح دليل على ذلك، أنَّها سارعت إلى درء الخطر عن المدن الكردية، وعن مدن المنطقة الغربية – ذات الأغلبية السنية – مثلما فعلت تجاه مدن الجنوب والفرات الأوسط.

مثل هذا التوجه كان مختلفاً تمام الاختلاف عن توجهات قوى وأطراف إقليمية عربية، تركز وتمحور كل همها على إسقاط التجربة السياسية الديمقراطية في العراق بعد التاسع من نيسان/أبريل 2003 وإفشالها، لأنها كسرت المعادلات التقليدية السابقة الممتدة إلى 8 عقود من الزمن. لذلك، راحت تعمل على خلط الأوراق، واختلاق الأزمات، وإثارة الفتن، وتمكين الجماعات والتنظيمات الإرهابية وإطلاق أيديها لارتكاب شتى الجرائم والمجازر الدموية ضد كل مكونات المجتمع العراقي.

وقد التقت الرؤية الإيرانية الواقعية والعقلانية مع رؤية طيف سياسي ومجتمعي واسع في العراق، يتطلّع إلى تخطّي زمن الحروب والصراعات والنزاعات العبثية، والسير في طريق الانفتاح الإيجابي مع مختلف الأطراف، بما يعزّز المصالح الوطنية، ويكرّس الاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي والتعايش المجتمعي.

وانعكس ذلك التلاقي بحراك متواصل بين العاصمتين على أعلى المستويات، وضمن كلِّ العناوين، وعلى امتداد 18 عاماً، إذ إنَّ كل الذين تعاقبوا على رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية زاروا العراق، والأمر نفسه بالنسبة إلى من تعاقبوا على رئاسة جمهورية العراق، إذ زار جميعهم إيران، وهو ما لم يحصل مع أي دولة أخرى، فضلاً عن علاقات اقتصادية وتبادل تجاري ناهز 13 مليار دولار سنوياً، وملايين الزوار والسائحين ومشاريع العمل والاستثمار في مختلف القطاعات.

على هذه الأرضيات التي أزاحت مخلّفات الماضي جانباً، لتصنع مساراً صائباً ومنتجاً وواقعياً بين بغداد وطهران، زار الكاظمي إيران، ليرسّخ مع قادتها وزعمائها وصناع قرارها ذلك المسار الصائب والواقعي والمنتج، من دون أن تكدّر صفو الحوارات والمباحثات صور ومشاهد الأمس البعيد، ومن دون أن تعرقلها عقد وإشكاليات هنا وهناك.

إنّ زيارة الكاظمي كرئيس للحكومة العراقية ليست نقطة البداية والانطلاق، إنما تأتي استكمالاً للمشوار ومواصلة للمسار.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.