نتنياهو الكذّاب ومأزق السقوط

موقع العهد الإخباري-

محمد أ. الحسيني:

انقلب السحر على “الساحر” بنيامين نتنياهو، كما درجت العادة على أن يلقّبوه، وتحوّل “الملك”، الذي قضى مدّة أطول ممّن سبقوه في موقع رئاسة الحكومة، إلى “كذّاب” يدمن إثارة فوضى التصريحات التي يوزّعها على كلّ حدب وصوب، فتارة يغازل حليفه الأميركي اللدود جو بايدن استراقًا لمهل زمنية تمتدّ مرة بعد مرّة أملًا في تحقيق إنجاز ميداني، وتارة أخرى يناور في لقاءاته مع عائلات الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، مطلقًا وعودًا مستطيلة بـ”تحريرهم” دون جدوى، وطورًا يمسك العصا من وسطها ليرضي ربابنة نجاته الحكومية (الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش) ويماطل بأخصامه في حكومة الحرب (الوزيران بيني غانتس ويؤاف غالانت)؛ وفي خضم هذه الفوضى المتشابكة من الاضطراب السياسي غير المسبوق الذي يعصف ببنية المشروع الصهيوني، تواصل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس في تعميق المأزق بما يهدّد استقرار المجتمع الصهيوني برمّته.

حرب بصبغة فلسطينية صرفة

إنّها دوّامة أدخل نتنياهو نفسه فيها سعيًا للفرار من السقوط المدوّي الذي ينتظره وهو في مقعد الإرهاب المنظّم والإجرام الممنهج بحق الإنسان الفلسطيني كيانًا وشعبًا ووجودًا، وهو مصير حتمي سيلاقيه مهما طالت المهل الزمنية الأميركية المزعومة، ولن يكون وحده في مسار الانهيار الانحداري بل سيسحب معه منظومة كاملة من البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جهد الغرب والأميركيون خصوصًا في تثبيت هياكلها على مدى عشرات السنين، فالكيان المؤقت يواجه اليوم أطول حرب مفروضة عليه بادرت إليها المقاومة الفلسطينية في خطوة جبّارة جعلت من النكسة والنكبة وكل مصطلحات الهزيمة تنقلب على تاريخ الانكسار العربي، وتقلب معها القوالب التي اعتادت سنّة العرب السياسية على تسويغها بذريعة الضعف واختلال ميزان القوى من جهة، ومن جهة ثانية بذريعة الاحتماء بالغرب من “غدر الجيران”، فجاءت المعركة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بصبغة فلسطينية صرفة وبنكهة حمساوية – جهادية وفي ظلّها فصائل المقاومة، ومن خلفها محور الممانعة.

لا تسوية قبل وقف نهائي للحرب

مؤخرًا أبلغ نتنياهو حكومته أن ما أسماه المرحلة الثالثة من الحرب على قطاع غزّة ستدوم ستة أشهر، وكان في وقت سابق أعلن أن الحرب قد تستمر إلى العام 2025، وأبلغ عائلات الأسرى أن “إسرائيل” مستعدة لتقديم تنازلات من أجل صفقة جديدة”، ولكنه نفى وجود مقترح حقيقي من حماس، مع أن الحركة كانت واضحة جدًا في موقفها الحاسم برفض أي هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار، فليس هناك أي مجال لعقد أي صفقة قبل وقف نهائي وحقيقي للحرب وانسحاب كامل للاحتلال من قطاع غزّة، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين جميعهم من السجون الإسرائيلية، وإلا فالحرب مستمرّة ومفتوحة إلى أن يشاء الله، وأقلّ ما يمكن وصف هذا الموقف بأنه يأتي بلسان الطرف المنتصر الحريص في الحفاظ على نصره الذي يتجدّد في محطاته اليومية مع تسارع عدّاد القتلى والجرحى في صفوف جنود الاحتلال، الذين أصبحوا كطيور البط في حقل رماية، وهي محاكاة لواقع عاشه العدوّ خلال احتلّاله لجنوب لبنان قبل اندحاره في العام 2000، ويعيشه اليوم نتيجة ضربات المقاومة الإسلاميّة لمواقعه وتجمعاته العسكرية في مستوطنات الشمال الخاوية.

حرب بتكاليف كارثية

على أن التصريح الأكثر حساسية لنتنياهو تمثّل في قوله إن “العالم سيطالبنا بضمانات إذا أوقفنا الحرب، وعندها لن نتمكّن من إعادة شنّها”، ويمكن تفسير هذا التصريح في اتجاهين، الأول: يؤكد نزعة القتل لدى قادة الاحتلال والاتجاه نحو إطالة أمد الحرب على قطاع غزّة لتحقيق انتصار ولو بشكله الإعلامي، وإمكان توسيعها عبر شنّ عدوان على لبنان تحت ضغط الصهاينة الذين هجروا المستوطنات في شمال فلسطين المحتلّة، والثاني: تقطيع الوقت ورمي كرة النار إلى الأمام سعيًا إلى تأخير مواجهة الأزمة واستجرار مهلة إضافية بانتظار حلّ ما تبتدعه إدارة بايدن، خصوصًا أنها لا تزال ترفض وقف الحرب قبل إرساء معادلة تسوية يكون فيها لـ “إسرائيل”، وليس لشخص نتنياهو، الورقة الرابحة. وفي كلا الاتجاهين تبرز مخاوف – عبّرت عنها “جيروزاليم بوست” – من أن “تؤدي حرب طويلة الأمد إلى سلسلة تكاليف مؤلمة بما في ذلك مقتل الأسرى ومئات الجنود، وإلى ضربة قاضية للاقتصاد وكارثة استراتيجية في صراع مع إدارة بايدن”.

مناورات على حد النار

يؤمن نتنياهو بشدّة أن واشنطن لن تتنازل عنه أو تضحّي به على مذبح الصراع مع الفلسطينيين، وهذه قناعة راسخة كرّستها التجارب الإسرائيلية مع سائر الحكومات الأميركية على مدار ما كان يُعرف بالصراع العربي – الصهيوني، ولذا يندفع في امتهان حرفة الكذب – وفق تعبير صحيفة “هآرتس” – بإعطاء الانطباع بأنه على استعداد للنظر في أشكال معينة من دولة فلسطينية منزوعة السلاح، إلا أنه في مكان آخر يرفض التنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على غرب الأردن، وهذا يتعارض مع مشروع إقامة الدولة الفلسطينية التي يرفضها نتنياهو وسائر قادة العدوّ رفضًا قاطعًا؛ حتّى لو كان مقابلها التطبيع مع العالم العربي وخصوصًا مع المملكة السعودية؛ وهذه المناورات التي يجريها نتنياهو على حدّ النار يهدف من خلالها إلى كسب الوقت أولًا، وهو بذلك يتماهى مع المبادرة الوهمية التي تروّج لها واشنطن وأوروبا وما يسمّى المجتمع الدولي ومعهم معظم العرب، تحت عنوان “حل الدولتين”.

السقوط حتمي

إنها أزمة فعلية ترسم وقائع الميدان تفاصيلها المتشابكة، بين مطرقة الاستمرار بالغرق في مستنقع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وبين سندان الضربات النوعية التي تنفّذها المقاومة الإسلاميّة على الجبهة الشمالية، وما بينهما مرجل يشتعل بنيران صواريخ المقاومة من اليمن والعراق والجولان، وتبقى لضريبة الصمود الباهظة التي يدفعها أهل غزّة الأثر الأكبر في تعميق الشعور بالهزيمة الذي يعتري قادة العدو، وتعبّر عنه وجوههم الكالحة المنهكة المفعمة بإمارات القلق واليأس، وعليه فلم يعد أمام هؤلاء وعلى رأسهم نتنياهو إلا الإذعان والخضوع لإرادة الشعب الفلسطيني، فالإمعان بالكذب لم يعد يجدي نفعًا كما في السابق، ولا مفر من السقوط ولو طالت المهل الأميركية الزائفة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.