نزاع بارد حول “دوبارديو”

Depardieu-putin

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
فيصل جلول:

كانت الانشقاقات الغربية نحو الشرق السوفييتي خلال الحرب الباردة تتم غالباً لأسباب تجسسية أو أيديولوجية، أو بسبب الاثنين معاً، وهي لم تسجل خروج شخصيات رمزية أو محورية في هذا البلد الغربي أو ذاك إلى موسكو واختيارها مقراً ووطناً وتبني ثقافتها وحضارتها وموقعها، وذلك بخلاف الانشقاقات الروسية نحو الغرب التي شملت شخصيات أساسية ومحورية، لعل من أبرزها الروائي الروسي الشهير إلكسندر سولجنستين الذي كان يتمتع بوعي قومي حمله على الرجوع إلى روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة، وأن يكتب قبل مغادرته الولايات المتحدة هجاء مقذعاً للغرب، ومديحاً مطلقاً للقومية الروسية .

تغيرت بعد الحرب الباردة طبيعة العلاقات بين الاتحاد الروسي والغرب، وما عاد الانشقاق سلاحاً يستخدمه هذ الطرف أو ذاك لأغراض سياسية، وإن كان الغربيون يصرون على التدخل في الشؤون الروسية دفاعاً عن “حرية التعبير” أو عن “حقوق الإنسان”، وبالتالي يدعمون صحافيين مناهضين لحكومتهم أو مغنين متأثرين أو مقلدين للثقافة الغربية، وآخرهم ثلاثي نسائي أطلق أغنية مناهضة لبوتين داخل كنيسة، ودخلن السجن عقاباً لمدة سنتين .

في هذا السياق طرأت قضية جيرار دوبارديو الممثل الفرنسي والعالمي الشهير الذي حصل قبل أيام على جواز سفر روسي، وعرض عليه رئيس إقليم موردوفيا الروسي منصب وزير الثقافة، فضلاً عن منزل للاستجمام وسط غابة ساحرة .

وعلى الرغم من كون دوبارديو قد غادر بلاده في الأصل لأسباب ضريبية إلى بلجيكا، فإن حصوله على الجنسية الروسية بعد إعرابه عن نيته التخلي عن جوازه الفرنسي قد حول قضيته إلى قضية انشقاق تتعدى الضريبة والمصلحة، فها هو يتحدث عن “روسيا الديمقراطية” ويدافع عن الرئيس بوتين ويحيي رئيس الشيشان، ويشترك في أغنية مع ابنة إسلام كاريموف رئيس أوزبكستان منذ العام 1989 دون انقطاع، والصديق الأبرز للرئيس الروسي . ويعرب، أي دوبارديو، عن رغبته القوية بتعلم اللغة الروسية . . وعن تعلقه بديستويفسكي . . إلخ .

ولعل انشقاق الممثل الفرنسي لم يبنَ على جواز السفر وحده، فقد لعب دور راسبوتين في فيلم سينمائي من إنتاج فرنسي  روسي مشترك، وهو من أكثر الممثلين الأوروبيين شهرة في هذا البلد، ويراه الروس يومياً في إعلاناتهم التجارية، ومن بينها “الكاتشاب” الروسي . وقد لا يكون اختياره شخصية راسبوتين للسينما عفوياً، فديبارديو يتمتع بخصال وبنشأة إذا ما نزعنا منها العامل الديني، فإنها شديدة الشبه بسيرة الراهب والمغامر الروسي، لاسيما ما يتصل منها بالمغامرة وبالسهر والسمر والنساء، والتقرب من السلطة . . إلخ .

تبقى الإشارة إلى سبب آخر لم يحظ بالأضواء الكافية بعد، وهو يتعلق بالخيار الأول للممثل الفرنسي، وأعني بذلك الإقامة في بلجيكا، كالعديد من رجال الأعمال الفرنسيين الهاربين من الضرائب . فالراجح في حساباته أن بلجيكا تتلقى تأثيراً وضغوطاً فرنسية، وربما لن تغطي هجرته إليها كما يشتهي، فضلاً عن أنها امتنعت عن تغطية هجرة رجل الأعمال الفرنسي الأغنى في العالم برنار أرنو الذي اتهم مؤخراً بإدارة شركات وهمية، ويخضع للتحقيق لدى القضاء البلجيكي . والظن الغالب أن ديبارديو اختار روسيا خصم بلاده ومنافسها على المسرح الدولي، ليتحرر من الضغوط وليخوض مواجهة مع حكومته إذا ما قررت تحويل قضيته إلى قضية وطنية فرنسية، كما بدا من تصريحات رئيسها جان مارك إيرو الذي وصف خروج الممثل إلى بلجيكا بالخيار “الحقير” .

والبادي أن أثر هذا الانشقاق ليس عابراً، بدليل أن الرئيس فرانسوا هولاند اتصل هاتفياً بمواطنه الممثل، ليثنيه عن الخيار الروسي في مطلع العام الجديد، لكنه أخفق في مساعيه، فضلاً عن انتقال القضية إلى الفضاء الأوروبي والتزام الأوروبيين جانب الحكومة الفرنسية . ويلاحظ ذلك من خلال الحملة العنيفة التي شنتها ضده بعض وسائل الإعلام الكبيرة، ومن بينها “الموندو” الإسبانية التي وصفت ديباردويو ب “صديق المستبدين” .

بالمقابل يرد ديبارديو بنزع الصفة الفرنسية عن شخصه، والقول إنه مواطن عالمي، وإن والده زرع في نفسه هذا الشعور الذي رافقه طوال حياته، ويذهب إلى حد الطلب من وسائل الإعلام الفرنسية بمغادرة القاعة في مؤتمر صحفي عقده في موردوفيا، ويصرّ على إطلاق الأوصاف الديمقراطية على روسيا وعلى فلاديمير بوتين شخصياً، ويرى أن مواطنيه الذين يأخذون عليه هذا المديح “لم يخرجوا يوماً من بلادهم”، أي أن آراءهم نمطية ومعزولة ولا قيمة لها .

يفصح ما سبق عن قضية انشقاق، هي الأولى من نوعها في فرنسا، يتنازع حولها رئيسا دولتين من البلدان الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فضلاً عن وسائل الإعلام والنخبة الثقافية والفنية، ومن غير المستبعد أن تؤثر سلباً في العلاقات الثنائية، باعتبار أن بوتين كان المبادر إلى عرض جواز السفر على الممثل المشهور، الأمر الذي لا يروق للسلطات الفرنسية، لكن بالمقابل يمكن للسلطات الروسية أن تعتبر تدخل الفرنسيين في الشؤون الداخلية الروسية من باب الدفاع عن حقوق الإنسان هو أيضاً مهين وغير مقبول، وأن قضية ديبارديو هي أيضاً قضية حقوق إنسان، خصوصاً بعد أن عبّر عن رغبته العلنية بالتخلي عن جوازه الفرنسي .

في تعليقها على قضية ديبارديو قالت وزيرة الثقافة في الحكومة اليمينية السابقة فاليري بيكريس: إن فرنسا صارت على حافة دول العالم، ولعلها تريد بذلك النيل من الحكومة الاشتراكية، غير أنها في الوقت نفسه تعبر عن شعور متزايد لدى أعضاء النخبة في هذا البلد، من أن دولتهم ما عادت قوة عظمى، بل ما عادت متوسطة القوة، وقد لا تكون مخطئة تماماً، فالانشقاق بهذا الحجم وبهذا الصدى يتم عادة من الأضعف إلى الأقوى وليس العكس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.