نولاند من موسكو الى بيروت: الروس ينتظرون تسليم أوكرانيا فماذا عن لبنان؟

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج*:

قلة هم من تعلموا دروس التاريخ، وحفظوا عبره، ووعوا جيدا، أن الارتهان للدول الكبرى كالولايات المتحدة، سيجعل منهم مجرد أدوات، لا رأي لهم ولا قرار، حتى وإن صنفتهم من أقرب حلفائها وأصدقائها، سواء كانوا ملوكًا أو رؤساء أو قادة. ففي لحظة ما، يتحولون بين ليلة وضحاها، إلى كبش فداء على مذبح سياستها التي تضع مصالحها فوق أي اعتبار، حتى لو تطلب الأمر التضحية بهم وطرحهم كأوراق مساومة مع الدول الأخرى. وهل نسينا شعار “اميركا أولا”؟

هكذا هو حال بعض ساسة لبنان وأوكرانيا ــ الذين فاتهم أنه في السياسة ليس ثمة أصدقاء أو أعداء دائمون ــ الدولتين اللتين تقعان في دائرة نفوذ واشنطن، وكانتا على الدوام موضع اهتمام اميركي يظهر من خلال الحضور الدائم والفاعل لمسؤوليها وسياسيّيها ودبلوماسييها الذين يترددون دائمًا على هذين البلدين، كمرشدين وناصحين وآمرين (كما دلت الاحداث)، وآخرهم وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، التي زارت الاسبوع الماضي بيروت وموسكو، وأمضت في الأخيرة يومين، اجتمعت خلالهما مع كبار مسؤولي السياسة الخارجية الروسية، في لحظة محورية في العلاقات الثنائية، إذ يبدو أن السلام والحرب (بين روسيا واكرانيا) باتا في كفتي الميزان، بانتظار رجحان احدهما على الآخر، فيما ناقشت في العاصمة اللبنانية ملف الدعم الاميركي للبنان والمحافظة على “سيادته”.

لنستعرض أهداف الزيارتين:

الخميس الماضي 14 تشرين الاول الجاري، حطّت نولاند في مطار بيروت في زيارة رسمية، حَفِل جدول أعمالها بعدد من اللقاءات مع قيادات الدولة العليا، إضافة الى ممثلي المجتمع المدني (الذين أصبحوا في الآونة الأخيرة، في صدارة رزنامة الموفدين الغربيين الى بيروت).

وللمصادفة، فإن تنقلاتها بين المسؤولين اللبنانيين تزامنت مع اندلاع شرارة أحداث الطيونة، بعدما وجّه القناصون التابعون لـ”حزب القوات اللبنانية”، رصاصاتهم الغادرة على رؤوس وصدور المدنيين العزّل، الذين كانوا يحتجون على أداء المحقق العدلي في قضية المرفأ طارق بيطار.

وعلى وقع أزيز الرصاص، ومشاهد الدماء المراقة ظلمًا، أكملت نولاند جولاتها وصولاتها بين المناطق اللبنانية، دون أن تتأثر بأحداث الطيونة، وأعلنت أن “الولايات المتحدة ستقدم دعمًا إضافيًا قدره 67 مليون دولار للجيش اللبناني” دون أن تحدد طبيعة الدعم أو شكله أو موعد تقديمه. ووفقًا لشخصيات لبنانية تربطها على وثيقة بالأميركيين، فإن زيارة نولاند كان هدفها استطلاعيًّا بشكل أساسي، وستتمّ معها متابعة ملفّات عدة، منها المساعدات الإنسانية ودعم لبنان في كلّ المجالات الممكنة، فضلًا عن دعم استقراره وسيادته (وهنا السؤال، المحافظة على السيادة بوجه من؟ وواشنطن تتدخل باصغر تفصيل لبناني).

الآن وقبل الاستدارة نحو روسيا، والتعرف على شخصية نولاند، ومهمتها هناك، لا بد من الاطلاع على جملة من التطورات التي سبقت وجودها بموسكو.

في 11 تشرين الاول، صاغ الرئيس السابق ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف مقالاً شديد اللهجة نشرته صحيفة كوميرسانت الروسية، لفت فيه الى أن “النظام الأوكراني الحالي يسيطر عليه القوميون على الطراز النازي، ويخضع للسيطرة الأميركية المباشرة”. وجادل ميدفيديف أنه “من المنطقي مناقشة الأمور الأوكرانية فقط مع واشنطن بدلاً من “أتباعهم” في كييف”.

سريعا تبنى الكرملن كلام ميدفيديف، إذ قال ديمتري بيسكوف، السكرتير الصحفي لبوتين، ونائب رئيس الأركان، للصحفيين إن “آراء ميدفيديف صحيحة وتتماشى مع السياسة الرسمية”. المعارضة الروسية من جهتها، تلقفت المغزى من رسالة ميدفيدف، فوصف السياسي الليبرالي المعارض غريغوري يافلينسكي مقال ميدفيديف بأنه “خارطة طريق للحرب القادمة”، معتبرا ان “كارثة الولايات المتحدة في أفغانستان وانتصار الكرملين في انتخابات مجلس الدوما في ايلول الفائت، عززا النزعات العدوانية الروسية”.

أما على أرض الواقع، فالأخطار تحيط بشبه جزيرة القرم وجنوب روسيا من كل جانب، فيما الاستعدادات الحربية مستمرة، وما يؤخر أي تحرك، هو أمطار الخريف التي وصلت إلى روسيا وأوكرانيا، محولة الطرق والحقول الترابية إلى بحر من الطين الرطب الذي يجعل الحرب الآلية الهجومية واسعة النطاق مستحيلة بشكل أساسي حتى يجمد الصقيع الشتوي الأرض في كانون الثاني المقبل.

لماذا نولاند بالتحديد هي من توجه الى موسكو؟

تعتبر نولاند مسؤولًا رئيسيًا في الولايات المتحدة، عن ملف الأزمة الأوكرانية من 2013 إلى 2017، بصفتها مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية آنذاك، ومنذ ذلك الحين يُنظر إليها في موسكو على أنها عدو لدود أو مذنب بنظر الروس، لدورها في التخطيط للإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش في شباط 2014.

ونتيجة لدورها هذا، أدرجت نولاند في العام 2019، على القائمة السوداء من قبل السلطات الروسية، ومُنعت من دخول روسيا، ولهذا اعتُبر التخطيط لزيارة نولاند إلى موسكو عملاً محفوفًا بالمخاطر، لم يخلُ من تنازلات متبادلة.

تحفّظ موسكو على شخص نولاند، لم يمنع الحكومة الروسية في النهاية من الموافقة على إصدار تأشيرة دخول لها، كونها، اليوم، مسؤولة في وزارة الخارجية (لا مفر من التعامل معها)، لكن القبول الروسي لم يمر دون ثمن.

بالمقابل نفذت اميركا طلبات موسكو التي حصلت أيضًا على تنازل مماثل من واشنطن، تمثل بإعطاء تأشيرة أميركية لخبير مراقبة الأسلحة ونزع السلاح بوزارة الخارجية الروسية كونستانتين فورونتسوف، الذي كان مُنع من زيارة نيويورك للمشاركة في أنشطة الأمم المتحدة منذ عام 2019.

بعد وصولها إلى موسكو الثلاثاء الماضي في 12 تشرين الاول، عقدت نولاند اجتماعاً مطولاً، في وزارة الخارجية مع نائب وزير الخارجية سيرجي ريابكوف، المسؤول عن العلاقات الأميركية ــ الروسية ومفاوضات الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي، بحضور نائب وزير الدفاع الروسي، الكسندر فومين المسؤول عن العلاقات الخارجية. كما بحثت معهم الاستقرار الاستراتيجي، مع التركيز بشكل خاص على الأزمة الدبلوماسية الحالية بين موسكو وواشنطن.

ولمعرفة اكثر عن هذه الازمة، وكيف نشأت، لا بد من الاطلاع على تفاصيلها في السطور التالية.

في اب الماضي منعت روسيا السفارة الأميركية في موسكو، من تعيين موظفين روس أو من دولة ثالثة، باستثناء حراس الأمن (استنادا لوزارة الخارجية الاميركية)، مما أجبر البعثة على تسريح 182 من موظفيها وعشرات من المتعاقدين على العمل معها. كما أمرت بفصل الموظفين المعينين سابقًا بحلول اب 2021، فلم يبقَ حينها في السفارة الاميركية في موسكو، سوى حوالي مائة موظف دبلوماسي. وبالتوازي مع ذلك، توقفت السفارة الاميركية بشكل أساسي عن إصدار تأشيرات الزيارة للمواطنين الروس.

على الملقب الآخر، منعت الخارجية الأميركية تجديد تأشيرات الموظفين والدبلوماسيين الروس المعتمدين لدى واشنطن، ورفضت كذلك استبدالهم، وإطالة أمد بقائهم على الأراضي الأميركية. وبسبب هذه الاجراءات، من المتوقع ان ينخفض عدد الدبلوماسيين الروس في الولايات المتحدة بشكل كبير بحلول كانون الثاني 2022.

في العلن، يقول الجانبان إنهما يريدان ايجاد حل متوازن وعادل للمشكلة، بيد انهما فشلا في ايجاد صيغة مقبولة للطرفين، إذ لم تسفر زيارة نولاند عن اختراق في هذا الملف، حيث وصف ريابكوف المحادثات بانها صريحة. وبذلك تبدو العلاقات الأميركية ــ الروسية سيئة، ويمكن ان تزداد سوءا، وقد يغلق التمثيل الدبلوماسي أساسًا.

بالعودة الى ريابكوف وفومين، فهما ليسا من صناع القرار، ونادرًا ما يجتمعان مع الرئيس فلاديمير بوتين. فريابكوف يترأس الوفد الروسي الذي يجتمع بانتظام مع ممثلي الولايات المتحدة في جنيف لمناقشة نفس جدول الأعمال الخاص بالاستقرار الاستراتيجي والأزمة الدبلوماسية.

الآن لنقرأ قصة ريابكوف وفومين مع الرداء الأحمر لنولاند

نولاند الخبيرة بالشأن الروسي، كانت على دراية جيدًا بالوزن (الوظيفي) لكل من ريابكوف وفومين، وأنهما ليسا من أصحاب الحلّ والربط، وعليه لم يكن من المنطقي بالنسبة لواشنطن أن تنظم رحلة نولاند إلى موسكو لمجرد لقاء آخر غير مثمر ظاهريًا مع ريابكوف وفومين، فما كان منها الا ان قامت بخطوات غريبة (تنطوي على استخفاف واضح بمنصبيهما)، فيما تصرفت برصانة اكبر عقب لقائها ممثل الرئيس الروسي فلاديمر بوتين. ولنراقب بدقة ما جرى.

نولاند من موسكو الى بيروت: الروس ينتظرون تسليم اوكرانيا فماذا عن لبنان؟

عندما ذهبت إلى اجتماع، في وزارة الخارجية في 12 تشرين الاول، ارتدت نولاند بذلة قرمزية (حمراء فاقعة اللون) وحذاء كاحل مقلّمًا (وفقا لوكالة نوفوستي الروسية). استنتج المعلقون الروس أن البدلة القرمزية (الحمراء) كانت موضع تساؤل، في حين أن الحذاء كان بالتأكيد خارج البروتوكول، ومن الواضح أنه عرض متعمّد لعدم الاحترام. وقد يكون لدى نولاند وجهة نظر لم تفصح عنها.

لكن في اللقاء الثاني ــ دائما بحسب مركز دراسات اميركي ــ اخذت نولاند الامر على محمل الجدّ، فوصلت في 13 تشرين الأول، الى مجمع الإدارة الرئاسية في ستارايا بلوشاد المجاور للكرملين (السبب الأساسي لزيارتها موسكو)، مرتدية بذلة رجال الأعمال المظلمة الأكثر جدية، للقاء مساعد بوتين للسياسة الخارجية يوري أوشاكوف، وديمتري كوزاك، نائب رئيس الإدارة الرئاسية، المسؤول عن الأزمة الأوكرانية وشؤون رابطة الدول المستقلة الأخرى.

لمن لا يعرف كوزاك، فهو نائب رئيس الوزراء السابق، وصديق بوتين المقرب منذ فترة طويلة، ومقرب من سانت بطرسبرغ ايضا. اما أوشاكوف، فكان سفيراً لروسيا في واشنطن من عام 1998 إلى عام 2008، وبعد عودته إلى موسكو، أصبح مساعد بوتين الوثيق ومستشاره، والمنسق الرئيسي لأجندة السياسة الخارجية الروسية بأكملها ( غيّر بوتين قانون الخدمة المدنية الروسي على وجه التحديد للسماح لأوشاكوف بالاستمرار في الخدمة في سن 74).

أكثر من ذلك، يُعد كل من أوشاكوف وكوزاك من صانعي القرار الحقيقيين، وعلاقتهما مباشرة مع بوتين الذي قال في حديث في مؤتمر للطاقة في سوتشي في 13 أكتوبر، إنه “على علم بزيارة نولاند ومن المتوقع أن يتم اطلاعه على الأمر بواسطة اوشاكوف وكوزاك”.

في اللقاء، طرحت نولاند مع أوشاكوف وكوزاك، ما جاءت إلى موسكو من أجله، ألا وهو اقناع الكرملين بعدم الذهاب إلى أوكرانيا. ووفقا لدبلوماسيين روس، يبدو انها عادت إلى واشنطن مطمئنًة إلى حد ما. من جانبه أعرب كوزاك عن ارتياحه لأن الولايات المتحدة لا تزال تدعم اتفاقيات مينسك ونظام الحكم الذاتي الخاص لدونباس التي تسيطر عليها روسيا. اما مدى نجاح مهمة نولاند للسلام، فسُتعرف ربما في غضون عدة أشهر.

لكن، بطبيعة الحال لن يغيب عن بال نولاند ومعها ادارتها، أن حجر الزاوية في التكتيكات والاستراتيجية العسكرية الروسية هو المفاجأة، كما تصرفت في جورجيا في عام 2008 وشبه جزيرة القرم/دونباس في عام 2014، أو سوريا في عام 2015. فهي لا تصدر أبدا تحذيرات أو إنذارات مسبقة.

وبغض النظر، عن العبارات الدبلوماسية المنمّقة، بدت النخبة الروسية الحاكمة داخل أروقة القرار، متحمسة جدا لايفاد نولاند الى روسيا لمناقشة الملف الروسي مع الاسياد وليس الاتباع كما عبّر ميدفيديف، وقد طرحوا تساؤلات حول ما إذا كانت زيارة نولاند خطوة أولى محتملة للتفاوض مباشرة على صفقة مع واشنطن بشأن تسليم كييف مثل كابول. (والقول يعود لباحثين في مؤسسة جايمس تاون الفكرية الاميركية).

وليس بعيدا عن هذه الحماسة الروسية، هناك في لبنان كذلك، من يدعو حلفاء نولاند في هذا البلد، الى أخذ العبر من مشاهد هرولة الافغان ــ الذي تعاملوا مع اميركا ــ وراء طائرات النقل التابعة لها، وهي تقلع من مطار كابول، وقبلها سايغون، ويؤمن ان هذا الصور ستتكرر في بيروت، وان نولاند أو من سيخلفها سيأتون يوما ليس ببعيد، ويفاوضون على رؤوس حلفائهم في لبنان، ويجعلونهم أوراق مساومة عرضة للبيع والشراء (والحكومة الافغانية خير دليل). وعليه يطرح السؤال الآتي: هل ستطلق اليوم (الثامنة والنصف مساءً) اشارة معركة اخراج النفوذ الاميركي من لبنان، فلننتظر ونرَ.

*باحث ومحاضر جامعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.