هل تبتعد السعودية عن الفلك الأميركي؟

موقع قناة الميادين-

محمد فرج:

التقريب بين السعودية و”إسرائيل” واحد من المشتركات الأصيلة بين إدارتي ترامب وبايدن، وذلك لا يتسق أبداً مع الموافقة على أي تقارب سعودي إيراني. لأن التقاربين يسيران في اتجاهين مختلفين تماماً.

لم تكن لحظة الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية هي المفاجأة في ذاتها؛ فعلى الرغم من حجم التوترات السعودية الإيرانية خلال السنوات الماضية، فإنَّ محطات التقارب سمة محتملة بين السعودية وإيران؛ ومن ذلك ما حدث في التسعينيات، عند تحسن العلاقات في حقبتي رفسنجاني وخاتمي والتنسيق حول جلسات المؤتمر الإسلامي.

إذاً، العلاقة السعودية الإيرانية مرّت بمحطات حدثت فيها حالات من التقارب بعد سنوات من الجفاء والتوتر، ولكن ما يثير الدهشة هذه المرة:

أولاً: أن يأتي هذا التقارب برعاية صينية، وارتدادات ذلك على الغضب الأميركي من السعودية.

ثانياً: أن تقترب المملكة من إيران، في الوقت الذي تصل المفاوضات النووية إلى طريق شبه مسدود أو على الأقل معطّل. وهنا، ما زال التوتر سيد الموقف في العلاقة بين واشنطن وطهران، في ظل تمسك الأخيرة بمواقفها السيادية والمستقلة، ولسان حال الأميركيين للسعوديين هنا: “لا تذهبوا قبلنا ولا تصافحوا قبل أن نفعل نحن”.

الابتعاد السعودي عن الفلك الأميركي هو حدث مرغوب بلا شك، ومن جميع الجهات الفاعلة في المنطقة؛ فإيران تستفيد بالتأكيد من هذا الابتعاد في تقوية موقفها المواجه للسياسة الأميركية والمفاوض معها، والصين تستفيد في دخولها المنطقة من بابها العريض، وبأن تكون الخطوة الأولى لها هي الجمع بين قوتين كبريين على المستوى الإقليمي، ومصر قد تشعر ببعض الارتياح في تنويع خياراتها الاستثمارية والعسكرية باتجاه روسيا، كما حاولت في أكثر من مناسبة.

كذلك، الدول العربية بحاجة إلى فترة استقرار طويلة في المنطقة، وتعتبر أن التفاهم السعودي الإيراني قد يكون أحد روافعها، وربما أهم روافعها، وشعوب المنطقة الرافضة للتطبيع تأمل أن يساهم اتساع المسافة بين الرياض وواشنطن في فرملة التقارب السعودي الإسرائيلي، ولا سيما عندما تقترب الرياض من طهران.

ولكنَّ الابتعاد السعودي عن الفلك الأميركي ليس محكوماً بالرغبات والأمنيات، مع مشروعية هذه الرغبات طبعاً وإمكانية تحقق بعضها، إلا أنَّ هذا الابتعاد محكوم بعاملين أساسيين يحددان بشكل قاطع مدى جديته وآفاقه واحتمالات تحققه ونتائجه؛ الأول: ما الذي يدفع السعودية إلى هذه الخطوة؟ هل هو سبب تكتيكي عابر أم إستراتيجي وأكثر ديمومة، والآخر: ما أوراق الضغط المتبادلة بين الرياض وواشنطن التي تحكم مسافة الابتعاد، إن حدث؟

فرضيات الابتعاد
هناك 3 فرضيات مطروحة على طاولة التحليل والبحث في الخطوة السعودية المتمثلة بالاتفاق مع إيران برعاية صينية. وقد تحول الحديث عن هذه الفرضيات إلى ما يشبه المضاربات في بازار التحليل السياسي:

– الأولى: أن السعودية أيقنت حجم التبدلات العالمية، وهي قلقة من لحظة التخفف الأميركي من المنطقة للتركيز على الصين وروسيا، وهي بذلك تستعدّ لتلك اللحظة في تنويع الخيارات الاقتصادية والأمنية.

– الثانية: أن وقود الابتعاد السعودي عن الفلك الأميركي هو الخلاف الذي لم يحل بين بايدن (الذي لا يستطيع أن يتخلى عن الشعار الحقوقي لإدارته، وإن كان بطبيعة الحال مزيفاً) وابن سلمان (الذي ما زال واثقاً بالتدفق المالي الريعي والنفط كسند لصياغة المواقف التي يريدها شخصياً، مهما كانت تكلفتها، ومهما كانت مقبوليتها السياسية).

– الثالثة: أن ما جرى لم يكن بعيداً من الضوء الأخضر الأميركي الذي سيعرف كيف يقطف ثمار الخطوة لاحقاً بما يعود بالنفع على المصالح الأميركية.

وفي الوقت الذي أعلنت إدارة بايدن صراحة تأييدها للتفاهم بين إيران والسعودية، وأنها غير قلقة من الدور الصيني في هذه الخطوة، إلا أن الجلسات الضيقة حملت موقفاً مغايراً، وكان التعليق المشترك لمساعدي بايدن على هذا الحدث: “نعم، إن ذلك يعني تأكل الدور الأميركي في المنطقة”.

من زاوية ثانية، شكّك الأميركيون في التزام إيران بوعودها للسعوديين في محاولة لإجهاض الاتفاق في مهده. ومن زاوية ثالثة، يجب ألا ننسى أن التقريب بين السعودية و”إسرائيل” واحد من المشتركات الأصيلة بين إدارتي ترامب وبايدن، وذلك لا يتسق أبداً مع الموافقة على أي تقارب سعودي إيراني. ببساطة، لأن التقاربين يسيران في اتجاهين مختلفين تماماً. كل ذلك يدلل على “فنتازيا” الفرضية الثالثة، وعلى أن اعتبار الخطوة السعودية خطوة مبرمجة أميركياً ما هو سوى تسطيح وتبسيط مبالغ فيه للخطوة نفسها.

تبقى الخطوة السعودية مزيجاً من الاضطرار (وهذا ما يشغل بال المستشارين السعوديين) والتوجه الانفعالي والغرائزي (وهذا ما يسيطر غالباً على ابن سلمان)، أي أن الخطوة ببساطة مزيج من الفرضيتين الأولى والثانية، وذلك ضمن المؤشرات والدلائل الآتية:

1- تشكّل السعودية أكبر سوق لصادرات الأسلحة الأميركية. 63% من واردات السعودية من السلاح منذ عام 2010 إلى عام 2019 كانت من الولايات المتحدة. لذلك، تهتم الأخيرة في إبقاء المملكة في حالة من شراء السلاح (الخوف أو الحرب).

تجد السعودية نفسها اليوم بعد 8 سنوات من الحرب على اليمن غير قادرة على الاستمرار في معادلة الاستنزاف المربحة أميركياً والمدمرة للسعودية. بالنسبة إلى الصين، فهي غير مهتمة في تحويل السعودية إلى سوق سلاح كبير، بقدر ما هي مهتمة بمشاريع البنية التحتية المدنية، وهي بذلك، وعلى النقيض من الموقف الأميركي، تسعى لوقف الحرب، وليس لإذكائها.

2- إذا كانت الولايات المتحدة تنظر إلى السعودية كأكبر مستهلك للسلاح، فالصين تنظر إليها كأكبر مزود وبائع للطاقة (المورد الأول قبل روسيا)، وهذا ما يجعل السعودية حذرة للغاية في علاقتها مع الصين وحريصة عليها، فجميع مشاريع رؤية 2030، بما فيها مدينة نيوم، قائمة على الدعم المالي المتأتي أساساً من ريع النفط.

الولايات المتحدة وصلت إلى حالة الاكتفاء، وإنتاجها الداخلي يكفيها، وهي تستطيع الاستمرار اليوم بـ”صفر” واردات من النفط. إذاً، كل مشاريع المدن الذكية ورؤية 2033 تقوم على التمويل المتأتي من النفط الذي تمثل فيه الصين أكبر زبون ومشترٍ.

3- خلال إدارة ترامب، ألقت السعودية بالونَي اختبار للتطبيع، هما البحرين والإمارات، وكان التقارب يتسارع ضمن متطلبات الإدارة الأميركية. خفف حضور إدارة بايدن هذه الضغوطات، نظراً إلى أن الجفاف قائم أساساً في العلاقة مع ابن سلمان.

بعد مرور 3 أعوام على اتفاقيات “أبراهام”، لا يلمس أحد مكاسب الإمارات أو البحرين على المستويات الأمنية والاقتصادية من هذه الاتفاقيات، ولم يجنِ منها البلدان سوى المزيد من اللوم والسخط الشعبي في المنطقة.

الابتعاد النسبي للسعودية عن الولايات المتحدة قد يريحها من ضغوطات الاستعجال في التقارب مع “إسرائيل”، ولا سيما أن الصين لا تضغط في هذا الاتجاه، ولا تعتبره شرطاً لأي تعاون، وهي غير مهتمة بهذا الملف خارج إطار اقتراحاتها “لحل الصراع”.

4- الولايات المتحدة لا تقلق من ابن سلمان لأنه يتحداها، ولكن لأنها لا تطمئن إلى الشخصيات المتقلبة المزاج التي تتخذ خطوات غير ممنهجة ومتناقضة. ابن سلمان الذي يتثاقل من قراءة التقارير التي تصله من مستشاريه، يقول إنه مؤيد لأطروحات ميكافيللي، والولايات المتحدة تعرف أن فهمه لهذه الأطروحات لا يعني أكثر من الميل إلى “فهلوة” السياسة اليومية والحدس.

أوراق الضغط الأميركية
كل عوامل الضّغط التي تعيشها السعودية، ونهج الحكم الذي يحتمل القرارات المفاجئة والمثيرة للاستغراب أحياناً، تدفعها باتجاه الصين والابتعاد عن الفلك الأميركي، إن أرادت أن تتجنّب الانتحار الذاتي، ولكن هذه الخطوة لن تكون سهلة وسريعة، ومن غير تكاليف واحتمالات رد أميركي، وربما تلكؤ سعودي، ومن ذلك:

1- ما زالت البنية التحتية النفطية في “أرامكو” تخضع من ناحية الشركات المشغلة، والشركات المتعاقدة من الباطن، وشركات الاستشارة وإدارة المشاريع، لشركات أميركية، وعملية استبدالها تحتاج إلى وقت، يمكن اختصاره بشكل حاد مع الصين إن كانت هناك قرارات سياسية جريئة قائمة على رؤى استراتيجية، وليس انفعالات وخصومة سياسية عابرة.

2- ما زال العمود الفقري في المؤسسة العسكرية السعودية مكوناً من الأسلحة الأميركية والطائرات وشبكة الرادار والدبابات ومناهج جمع المعلومات والاستخبارات بالطريقة الأميركية، استناداً إلى خريجي الكليات العسكرية بالمناهج الأميركية أيضاً.

وإذا كان ابن سلمان قد تخلّص من شخصيات قوية مفضَّلة للولايات المتحدة مثل محمد بن نايف، إلا أنَّ السعودية ما زالت تحمل خيارات ضغط أميركية من الداخل، وعبر هذه المؤسسات.

3- حجم الاستثمار العالي في وادي السيليكون والشركات الأميركية والودائع في المصارف الأميركية قد يكون عرضة في أي لحظة للاستحواذ الأميركي، وهو الأمر الذي يمكن حله من خلال تحويل أكبر قدر ممكن من الودائع بعيداً عن المصارف الأميركية وتنويع سلة الاستثمارات.

تدرك السعودية أنَّ الخروج من نفق الأزمات التي تعيشها لن يكون إلا من خلال التوجه شرقاً. وقد ظهرت محاولاتها من خلال انضمامها إلى منظمة شنغهاي بصفة شريك حوار والحديث عن انضمامها إلى البريكس، ولكنها إلى اللحظة تسعى لإسكات الغضب الأميركي بسبب خطواتها من خلال رشى العقود المجزية، كما حدث في صفقة طائرات “البوينغ”.

الابتعاد السعودي عن الفلك الأميركي هو ضرورة للسعودية قبل أي طرف آخر، ولكنه بحاجة إلى خطوات تتسم بالسرعة والمنهجة، وهما العاملان اللذان لم يعملا بشكل جيد إلى الآن في مراكز القرار في الرياض.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.