هل تنجح بغداد في التقريب بين طهران والرياض؟

موقع العهد الإخباري-

عادل الجبوري:

لاحت خلال الشهور الخمسة الماضية، عدة إشارات من طهران والرياض، عن وجود رغبة مشتركة لحلحة وفك العقد الشائكة في مسيرة العلاقات المرتبكة والمضطربة بين الجانبين، والتي امتدت منذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران، ربيع عام 1979 وحتى هذه اللحظة.

لم تكن بغداد، بعيدة عن الحراك الايجابي بين طهران والرياض، بل كانت المبادرة والراعية لتقريب الرؤى المتباينة، وكسر الحواجز النفسية، وبلورة اطار مقبول وأرضية مناسبة للحوار الهادئ، ولعل اللقاءات الايرانية السعودية التي استضافتها بغداد خلال هذا العام، عكست طبيعة الدور العراقي بهذا الخصوص.

وطيلة أربعة عقود من الزمن، كانت العلاقات الايرانية السعودية تتحرك في سياق مسيرة تراجعية، تحكمت بها الى حد كبير وغذتها عوامل وظروف وأطراف خارجية، ابتداء من موقف الرياض الداعم لنظام صدام، حينما شن حربًا طاحنة على ايران بتشجيع ودعم واسناد كبيرين من قوى دولية واقليمية، وتجلى ذلك الدعم عسكريًا وسياسيًا واعلاميًا واقتصاديًا، ليكون له اثر كبير في ادامة الحرب لمدة ثمانية أعوام، تسببت باستنزاف هائل لموارد البلدين، ناهيك عن الخسائر البشرية التي لحقت بكليهما.

وتؤكد الأرقام أن مجموع ما قدمته السعودية للعراق خلال حرب الثمانية أعوام بلغ أربعين مليار دولار بصيغة قروض ومنح وأسلحة ومعدات حربية، وما زال ملف الديون والتعويضات المستحقة للرياض مفتوحًا ولم يغلق بالكامل حتى الآن.

وفضلًا عن الموقف السعودي الداعم لنظام صدام ضد ايران، فإن التقاطعات الايرانية السعودية، برزت واضحة في ملفات اقليمية مختلفة، من بينها الملف اللبناني، والملف السوري، والملف اليمني، وكذلك الملف العراقي، وكانت الرياض، تتوسل بكل السبل والوسائل لتحجيم دور وحضور طهران في المنطقة، ولعل ذلك النهج، كان جزءا من جهود متواصلة ومحمومة على كل الصعد والمستويات، قادتها الولايات المتحدة الاميركية وساهمت فيها اطراف دولية واقليمية عديدة، بهدف الاطاحة بالنظام السياسي الاسلامي الايراني، واعادة انتاج وفرض المعادلات القديمة.

واذا توقفنا عند مرحلة ما بعد نظام صدام في العراق، وما حفلت به من أحداث ووقائع في ظل الإحتلال العسكري الاميركي وهيمنة واشنطن على جانب كبير من مقاليد الامور، نجد أن الخلافات السعودية الايرانية باتت أكثر حدة.

وبينما كانت طهران، تدعم العملية السياسية والنظام السياسي الجديد في العراق، وانتهجت سياسة الانفتاح الايجابي معه، تبنت الرياض نهجا مغايرا بالكامل، تمثل بدعم وتمويل الجماعات الارهابية المسلحة، والتحريض الاعلامي والسياسي والديني، ناهيك عن عدم اتخاذ اية خطوات او مبادرات لتصفير الازمات ووضع حد للتوترات والخلافات مع بغداد، وان حصل ذلك، فأنه جاء متأخرا ومرتبكا الى حد كبير، كما حصل حينما أعادت السعودية في اواخر عام 2015 فتح سفارتها في بغداد، لتعين سفيرًا لها هو ثامر السبهان، ينحدر من بيئة أمنية، ومثير للجدل بسبب تصريحاته وتحركاته وتدخلاته السلبية.

ولأن الملفات متداخلة، والقضايا شائكة، فإنه مع مرور الوقت ترسخت لدى الأوساط والمحافل السياسية والشعبية العراقية قناعة مفادها، ان استمرار التأزم والخلاف بين السعودية وايران، يعني بقاء الوضع السياسي والامني والاقتصادي العراقي متأزمًا ومتوترًا وقلقًا ومضطربًا على الدوام.

ففي حين كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لا يرى قبل خمسة أعوام أي افق ايجابي مناسب لحلحلة المشاكل والازمات بين بلاده وايران، عاد ليغرد قبل أربعة شهور، قائلا “ان بناء علاقة جيدة وإيجابية مع إيران تعود بالنفع على جميع الأطراف”.

وبنفس المعنى والمضمون، راحت تتوالى الاشارات الايجابية من الرياض، وإن شابها نوع من التردد والتحفظ، الذي قد يكون محسوبا ومقصودا، لتقابلها اشارات ايجابية مماثلة من طهران، عبر عنها بوضوح المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زادة قبل عدة شهور بالقول “بالمفاوضات والنظرة البناءة، يمكن للدولتين المهمتين في المنطقة والعالم الإسلامي وضع خلافاتهما وراءهما والدخول في مرحلة جديدة من التعاون والتسامح لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة”.

ولا شك أن كل من طهران والرياض تواجهان جملة تحديات، وان اختلفت في ظروفها وخلفياتها، فالسعودية التي وجدت نفسها محاصرة ومتورطة على امتداد عشرة اعوام بملفات اقليمية معقدة وشائكة، في سوريا وعدوانها على اليمن، وعلاقات مضطربة جدا مع قطر وتركيا، وتذبذب واضح في التواصل مع العراق، وانفتاح غير محسوب العواقب مع الكيان الصهيوني، ادركت في لحظة معينة أنها لا بد أن تتجه الى تعديل المسارات قبل فوات الاوان، لذلك راحت تبحث عن مخرج مناسب من المستنقع اليمني يحفظ لها ماء الوجه، وبدلًا من أن تتمسك بخيار تغيير النظام في دمشق، قررت أن تتعاطى معه كأمر واقع، لا سيما بعد أن نجح في الصمود وافشال كل المخططات والمشاريع الرامية الى الإطاحة به منذ ربيع عام 2011 الى الآن، وكذلك فإنها اقتنعت بأن محاصرة وعزل قطر لم تجد نفعًا، إن لم تكن قد أتت بنتائج عكسية، وأن تبنيها منهج خلط الأوراق وإثارة الفوضى، وتغذية الارهاب في العراق، وصل الى طريق مسدود، ناهيك عن فشلها في ترتيب أوراق المشهد السياسي اللبناني وفقًا لمصالحها الخاصة، وبما يفضي الى تحجيم حزب الله وتقليص النفوذ الايراني.

وكما تقول المتخصصة في الشأن السعودي والباحثة في معهد كارنيجي للسلام، ياسمين فاروق فإن “مجرد قرار التحدث مباشرة مع إيران يشير إلى تغيير في السياسة السعودية، بالنظر إلى أن السعوديين رفضوا في السابق مناقشة اليمن مع إيران لأنهم يرون أن تدخل إيران هناك غير شرعي. لقد أصبحوا الآن أكثر واقعية ونضجًا، ويشعرون أن التحدث مع الإيرانيين سيكون أكثر فائدة من مجرد القول إنهم بحاجة إلى مغادرة اليمن”.

والملفت أن كل المساحات التي فشلت الرياض في توسعتها، أو المحافظة عليها بأدنى التقديرات، نجحت طهران في أن تسجل حضورًا واضحًا ومؤثرا فيها، وهو ما خفف عنها وطأة الحصار والعقوبات والضغوط الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها من قبل خصومها واعدائها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الاميركية.

والى جانب الظروف والاستحقاقات الاقليمية، يبدو واضحًا أن ثمة رغبة دولية جادة الى حد ما، لتخفيف بؤر التوتر في منطقة الشرق الاوسط بمقدار معين، عبر صياغة تفاهمات معقولة ومقبولة بين الخصوم المؤثرين، ولعل هذه الرغبة تتجلى من خلال المساعي المبذولة لاعادة احياء الاتفاق النووي مع ايران، وتقليص مظاهر التواجد العسكري الأجنبي، وتكثيف وتعزيز الجهود الدولية لمكافحة الارهاب.

وقد تحرك اصحاب القرار السياسي العراقي، على عدة عواصم دولية من اجل الدفع باتجاه تعزيز فرص وآفاق نجاح الحوار الايراني السعودي في بغداد، فضلا عن ذلك، فإن الأخيرة، سواء في عهد الحكومة السابقة برئاسة عادل عبد المهدي، أو في ظل الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، لم تكن بعيدة عن تفاعلات المشهد الاقليمي، وكان ادراكها وقناعتها بأن مفاتيح الحل الحقيقية للازمات الاقليمية هي في طهران والرياض أولا وأخيرا، يترسخ يوما بعد اخر، ولعل مجمل الحوارات التي جرت بين الزعماء وكبار المسؤولين في العواصم الثلاث، وفي المستويات الادنى، تمحورت حول سبل تذليل العقبات، وتذويب الخلافات، وتقليل التقاطعات، وبالتالي بلورة رؤى وتصورات مشتركة للحلول والمعالجات المطلوبة والممكنة.

وعلى ضوء ذلك، انطلقت مبادرات بغداد لجمع الخصوم والفرقاء تحت خيمتها، وبالفعل فإنها حققت نجاحًا لابأس به في هذا السياق، بعد عدة جولات من المحادثات البناءة، شارك فيها مسؤولون رفيعي المستوى من الجانبين، كرئيس جهاز المخابرات السعودي خالد الحميدان، ونائب الامين العام لمجلس الامن القومي الايراني سعيد ايرواني.

وفي منتصف شهر اب-اغسطس الجاري، صرح السفير الايراني في العراق ايرج مسجدي بأن “المباحثات الايرانية السعودية التي تشهدها بغداد تهدف الى حل المشكلات بين البلدين حول قضايا اقليمية واعادة افتتاح سفارتيهما، اذ ان عدة جولات من المباحثات بين ايران والسعودية قد جرت في بغداد مؤخرا، وهي انطلاقة ايجابية وموفقة وسوف تستمر، وسبب توقفها یعود إلی تزامنها مع تشکیل الحکومة الجدیدة في إيران، و سوف یتم بعدها اتخاذ قرار بشأن الاستمرار في هذه المفاوضات”، معتبرا “ان البلدين راغبين في حل المشکلات بينهما ونأمل ان تصل هذه المفاوضات الى نتیجة إیجابیة”.

ولا شك أن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة الذي عقد أواخر الشهر الماضي، بمشاركة دول الجوار الجغرافي والاقليمي وأطراف دولية، مثل فرصة مهمة أخرى لعقد لقاءات واجراء مباحثات ايرانية سعودية جديدة-وان كانت سريعة- تحت خيمة بغداد، وهي الاولى بعد تشكيل الحكومة الايرانية الجديدة برئاسة السيد ابراهيم رئيسي، وتولي الدبلوماسي الايراني الفاعل حسين امير عبد اللهيان منصب وزير الخارجية.

قد لا تأت النتائج والمعطيات الايجابية سريعا، لان تذويب جبل الجليد المتراكم من الخلافات والتقاطعات والاختلافات يحتاج الى وقت طويل، ولعل بغداد يمكن ان تنجح في بعض المواضع وتخفق في اخرى، لاسباب وظروف وعوامل موضوعية، لكن في كل الاحوال، فإن تحقيق الانفراجات حتى وان كان في درجاته الدنيا، يعني حلحلة لكل العقد وتخفيفًا لمختلف الأزمات.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.