وقفة في فيينا بمفاعيل أوكرانية

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

على الرغم من أن كل التقارير التي كانت تصدر عن الأطراف المشاركة في مفاوضات فيينا، البادئة منذ نحو عام، والرامية للعودة إلى الاتفاق النووي الموقع ما بين إيران ومجموعة 5+1 شهر تموز 2015، والذي ألغاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في أيار من العام 2018، كانت كلها تشير إلى أن مسودة للاتفاق باتت شبه جاهزة للتوقيع، وإن كانت كل تلك التقارير السابقة تجمع على وجود بعض القضايا العالقة التي تحتاج إلى مزيد من الجهد لحلحلتها، لكنها كلها، أي كل تلك التقارير، كانت تضع تلك العوائق في صورة بعيدة عن أن تشكل سداً أمام مسار التوقيع، نقول على الرغم من ذلك فإن تلك المفاوضات شهدت «وقفة» مفاجئة ليس معروفاً زمن إقامتها ولا إلى متى ستطول، فتعاود عجلة التفاوض من جديد دورانها بغية الوصول لخط النهاية الذي كان يراه كل من الأميركيين والإيرانيين على مرمى حجر.

أعلن الاتحاد الأوروبي، الذي يتولى مهمة التنسيق في المباحثات الهادفة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، يوم الجمعة 11 آذار الجاري عن الحاجة إلى «وقفة» في مفاوضات فيينا نظراً لبروز «عوامل خارجية» استدعت حصولها، ولكي لا تكون «الوقفة» دلالة على وصول المفاوضات إلى حدود الانهيار، قال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، بعيد الإعلان عنها إنها حدثت على الرغم من أن «هناك نصاً نهائياً كان جاهزاً تقريباً ومطروحاً على الطاولة»، لكن بروز «عوامل خارجية مستجدة دفع إلى ضرورة التوقف حاليا»، من دون أن ينسى التأكيد على آماله بأن يكون فعل التوقف مؤقتاً ولوقت قصير.

يذكر أن مسار المفاوضات في جولاته الأخيرة كان قد استطاع تجاوز عقبات من العيار الثقيل من نوع الضمانات التي طالبت بها طهران لمنع الوقوع في مطب إلغاء الاتفاق مرة ثانية، وفي الحلول ذهب المفاوض الأميركي إلى القول إنه ليس من الوارد تقييد الرئيس القادم، لكنه قبل بتقديم «ضمانات اقتصادية» من دون تحديد نوعها، لكنها كانت من النوع المرضي لطهران كما يبدو، ثم ذهبت واشنطن إلى تقديم تعهد برفع «الحرس الثوري الإيراني» عن لوائح الإرهاب الأميركية، ناهيك عن أن إدارة بايدن كانت قد نجحت في تجاوز مطب داخلي مثّله رفض أغلبية الكونغرس الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي، والنجاح جاء عبر تسويق الإدارة لمقولة مفادها إنها لا تبرم اتفاقاً جديداً، إنما تقوم بترميم اتفاقية قديمة كان قد وقعها الرئيس السابق باراك أوباما، وهذا كله يشير إلى رغبة أميركية جامحة في توقيع الاتفاق مع إيران، وربما تزايدت تلك الرغبة بشكل كبير في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 شباط المنصرم، لحسابات أميركية تقوم على محاولة شد إيران بعيداً عن روسيا والصين، الفعل الذي يمثل إحدى أكبر الغايات الأميركية الكامنة وراء الذهاب إلى إحياء الاتفاق مع إيران، مع الإشارة إلى أن النظرة عند «الديمقراطيين» تقول إن ذلك الذهاب كفيل باستدراج طهران بعيداً عن موسكو، وبعيداً عن بكين ومشروعها العملاق «الحزام والطريق» الذي أطلقته قبل نحو عقد من الزمن، ويخالفهم «الجمهوريون» في تلك الرؤيا الأمر الذي يبرر ذهاب ترامب لإلغاء الاتفاق بعد نحو ثلاث سنوات من توقيعه.

برز في الأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن «الوقفة» مطلب روسي يقضي بوجوب حصول موسكو على ضمانات أميركية مكتوبة بأن لا تؤثر العقوبات الغربية المفروضة على هذي الأخيرة سلباً في علاقاتها التجارية والاقتصادية والعسكرية مع طهران، والمؤكد هو أن هذا الطلب يخفي مخاوف روسية من استخدام الغرب للنفط الإيراني كبديل عن نظيره الروسي للتخفيف من أثر هذا الأخير في الأسواق العالمية التي دخلت في أزمة باتت اليد الطولى فيها لموسكو التي أجادت استخدام هذه الورقة وربما بدرجة فاقت التوقعات الغربية، وعليه فإن موسكو تأمل، من خلال طرحها سابق الذكر، بأن يجري تأجيل التوقيع على الاتفاق لحين انكشاف ضباب الأزمة الأوكرانية التي كرست، في غضون أسابيعها الثلاثة المنصرمة، قناعة لدى الغرب بأنها ستكون من النوع الذي سيحدد مصير القارة العجوز على وجه التحديد، من دون أن تقتصر تداعياتها على هذي الأخيرة.

تدرك واشنطن أن التوصل إلى اتفاق في فيينا أمر لا يمكن حدوثه من دون موافقة موسكو، وعليه فقد أعلنت الأولى، ودعم إعلانها، الثلاثي الأوروبي المشارك في المفاوضات، أنها لا تعتزم تلبية مطالب الأخيرة، بل ذهبت السفيرة البريطانية ستيفاني القاق إلى حد القول إن «الترويكا الأوروبية جاهزة لإبرام الصفقة»، وهذا يشير إلى محاولة أميركية، تعتد بدعم أوروبي، لدق إسفين بين طهران التي تعتبر التوقيع على الاتفاق إنجازاً لها، وبين موسكو التي تريد التريث ريثما تحين مواسم الحصاد في أوكرانيا.

كان الرهان أن الإعلان عن توقف المفاوضات سوف يثير موجة غضب عارمة في طهران، ولربما بدت بعض التراسيم الدالة على هكذا فعل في الساعات الأولى من إعلان جوزيب بوريل سابق الذكر، لكن سرعان ما تم احتواؤها عبر تصريح حاسم لمرشد الثورة علي خامنئي، ومن الواضح أن موسكو كانت أول من تلمست عمق الإسفين الذي يراد دقه فيما بينها وبين طهران، الأمر الذي يمكن لحظه عبر تصريح السفير الروسي إلى المفاوضات ميخائيل أوليانوف الذي قال إن «الرد الروسي سيجيء بعد عدة أيام»، وهو تصريح يحتوي ضمناً أن موسكو تدرك جيداً اللعبة وتدرك جيداً كيف تديرها، ثم إنها لن تقف أمام إنجاز تعتبره طهران من النوع الإستراتيجي لها لاعتبارات خاصة بها.

وكما هو متوقع، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أمس الثلاثاء، خلال مؤتمر صحفي مشترك في موسكو مع نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان أن بلاده تلقت الضمانات المطلوبة من واشنطن بأن العقوبات التي تستهدفها بسبب أوكرانيا لن تشمل تعاونها مع طهران، وقال لافروف: «لقد حصلنا على الضمانات المطلوبة خطياً، وتم شمولها في الاتفاقات لإعادة إطلاق خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني»، وتابع: «يحاول الأميركيون القول إننا نؤخر هذا الاتفاق، لكن هذه كذبة»، ومواقف لافروف هذه أكدها عبداللهيان بالقول إن «روسيا لن تكون عقبة أمام التوصل إلى اتفاق»، وأوضح أنه «لا يمكن لأي عامل أن يترك تأثيره السلبي على اتفاق فيينا والوصول إلى نقطة النهاية، وأن ما يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في فيينا هو النظرة الواقعية للجانب الأميركي في الأيام والأسابيع الأخيرة للتوصل إلى اتفاق».

وهكذا فإن الوقفة لم تكن طويلة، وعجلة التفاوض ستقلع من جديد، والمؤكد أن الجولة المقبلة ستكون سريعة بما يكفي للإعلان عن ولادة اتفاق سيكون بمفاعيل جيوسياسية شديدة الأهمية على امتداد المنطقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.