كورونا في «ربيعه» الثاني

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

لم يكن أحد يعلم، أو لربما كان قلة يعلمون، أن مسار الحضارة البشرية سيكون في أحد أيام شهر كانون الأول من العام 2019 أمام تحد، هو الأشد وطأة عليه منذ أن مر هذا الأخير باختناقي «هيروشيما وناغازاكي» النوويين صيف العام 1945، لكن من المؤكد وإن ظل ذلك اليوم غير محدد إلا بالنسبة للقلة التي تعلم، أنه سيحفر عميقاً على سطوح ذلك المسار بل سوف تزداد أخاديده عمقاً في غضون التحورات التي يتحايل بها «القادم الجديد» على من يحاولون اجتثاث وجوده، والتي من الصعب الآن تقدير إلى أين ستصل، وإلى متى يستطيع هذا الأخير الانتقال من شكل إلى آخر ، الأمر الذي بات يكسب الصراع، بينه وبين العاملين على اجتثاثه، طبيعة أخرى من بين محاورها عامل الزمن، حيث ستكون النتيجة النهائية محكومة بمن يكون الأسرع في الانقضاض على الآخر، بمعنى هل يستطيع الإنسان إنتاج «ترياق» حاسم يلغي تهديد الفيروس، كما حصل مع نظائر له سابقة مثل الكوليرا والحصبة والسل، قبيل أن يستطيع هذا الأخير متابعة تحوراته الضامنة لاستمرار تهديده كخطر داهم يصعب حصر انتشاره في زمن بات للإنسان فيه أن يتناول إفطاره في مدينة، ثم يتناول الغداء في أخرى فيكمل وجبة العشاء في ثالثة، لربما تبعد عن الاثنتين السابقتين بضع آلاف من الكيلومترات.

خلال عامين من عمر كوفيد 19، وما مر فيهما من حمولات تركها هذا الذي جاء اسمه تيمناً بسنة ميلاده، يمكن القول إن من الصعب حصر الآثار التي خلفها في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما تحتويه هذي الأخيرة من تفرعات تنضوي تحتها وفي الذروة منها الثقافية التي ترسم الكثير من معالم الحياة بكل تفاصيلها التي تبدأ بالسلوك والعادات، ثم تعبر إلى القيم والأفكار، وصولاً إلى نمطية العيش وطريقة التفكير في مواجهة التحديات، ففي الأولى، أي السياسية، باتت أهم القمم وكبرى المؤتمرات، التي تنجم عنها القرارات الراسمة للكثير من الانعطافات على امتداد هذا العالم، تعقد بتقنية الفيديو «كونفراس» درءاً لخطر يبدو جاثماً في حال انعقادها بالطرق التقليدية السابقة، ما يفقدها بدرجة كبيرة ميزة الاستفادة من «تماس» الوجوه و«اللكنة الحية» لأصوات المتحاورين، ثم باتت كبرى المعارك الانتخابية، خصوصاً منها تلك التي تجري في بلدان الغرب بالدرجة الأولى حيث درجة نضج المجتمعات المتقدمة تجعل منها أكثر عرضة وحساسية تجاه أي عارض فكيف إذاً والأمر يتعدى هذه الصفة، ترزح تحت وطأة «أخبار» الفيروس وخرائط انتشاره، حيث يكفي لتهمة من نوع «تساهل» رئيس مرشح أو مرشح آخر في مواجهته، أن تؤدي إلى ترجيح كفة أحدهما على الآخر، وفي الثانية، أي الاقتصادية، كانت التداعيات مختلفة ولربما متناقضة على ضفتي الأنظمة المتصارعة في هذا السياق، ففي الوقت الذي عانى فيه العديد من الاقتصادات الكبرى حالة من الإنكماش، وصلت في بعض حالاتها إلى تهديد بالركود، كان البعض الآخر منها ينجح في جني مكاسب من الحالة السابقة بفعل نجاحه في اجتراح سياسات التفافية كان لها دور فاعل في تنشيط دورة الاقتصاد، وكلتا الحالتين دفعت إلى حدوث تحولات جذرية كانت تصب في جعاب مختلفة، ففي الولايات المتحدة مثلاً، التي لا تزال تحمل لقب الاقتصاد الأقوى في العالم، كانت حركة الفيروس قد قادت إلى حدوث انزياحات وازنة في هيكلية القوى الاقتصادية الكبرى في البلاد، وفي مقال راصد لنوع كهذا من الانزياحات يذكر الاقتصادي الأميركي ريتشارد وولف في مقال نشره مطلع العام الحالي أن «أغنى خمسين مليارديراً في أميركا جنوا في غضون الأشهر السبعة الماضية، أي التي تسبق نشر المقال، الأرباح بطريقة خيالية عندما كانت جائحة كورونا بمنزلة أخبار جيدة لهم»، ثم أضاف إن «الناس العاديين يعانون من هذه الأزمة بدرجة تهدد معيشتهم بالمعنى الحرفي للكلمة»، وبهذا المعنى يصبح لحركة الفيروس تداعيات مهمة على التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية القائمة، والتي إن اهتزت بدرجة أكبر فلسوف تكون لها آثارها الخطرة على بنيوية كيان كانت نشطة بدرجة سمحت لها بالحفاظ على التفوق الذي تطمح لاستمراره ودوام نجاحه، والاهتزاز عينه سيؤدي إلى خلق حالة اقتصادية واجتماعية جديدة تدفع نحو نمو «اللامساواة» بشكل كبير، الأمر الذي ستكون له بالتأكيد تأثيرات تراكمية سيتوقف المدى الذي يمكن أن تصل إليه على طرق معالجتها، أما في الثالثة، أي الاجتماعية، فالآثار أكثر من أن تحصى أو تعد وهي تبدأ من النمطية الجديدة في العيش وتغير الأفكار التي استولدت جنيناً يمكن أن يطلق عليه «ثقافة الكورونا» التي ستراكم مجلداتها الكثير في مقبل الأيام، لتصل إلى انحرافات في الوعي يمكن لها أن تصل إلى مراكمة أنماط جديدة منه.

منذ أن أعلن عن وصول هذا «القادم الجديد» إلى عالمنا المثقل بالكثير من التناقضات والصراعات والأزمات فزادها حدة واتساعاً حتى بدت التلاقيات فيها غير ممكنة، سال حبر كثير عن «الرحم» الذي استولد ذلك الخطر الذي بات يتهدد مسار الإنسان في صراعه مع الطبيعة وما ترمي به من تحديات أمام ذلك المسار، وسال حبر كثير أيضا حول طبيعة المعالجة التي تفاوتت بحسب المرامي والأهداف التي حددتها الرؤى التي تتبناها الشعوب وأنظمتها تجاه مثل خطر داهم كهذا، فلا شيء بعيد عن استثمارات السياسية التي تحاول ممارسة الفعل حتى في مصائر، ومصير، الإنسان على الأرض، ولسوف يسيل حبر أكثر قبيل أن يستطيع الإنسان الوقوف على مشارف طي صفحة الخطر بشكل نهائي، والسؤال الذي لربما يمكن طرحه، والتباعدات بين «القيمين» على وجود الإنسان في هذا الكوكب هي في أوجها، السؤال هو: إلام ستبقى هذه الحضارة الإنسانية رهينة سياسات متناقضة في مسائل على درجة بالغة من الخطورة مثل المناخ والأوبئة التي يتهدد الخلاف حولها مسيرة تلك الحضارة برمتها فيجعلها أقرب لأن تكون في جفن الردى؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.