أوروبا بين الإرهاب والعنصرية

europe-vote

موقع العهد الإخباري ـ
سركيس ابو زيد:

الانتخابات المحلية التي جرت مؤخرا في فرنسا عكست صورة لميزان القوى السياسية، وشكلت اختباراً حقيقيا للأحزاب قبل الانتخابات الرئاسية عام 2017 . فقد ارتفعت حصة “الجبهة الوطنية” برئاسة مارين لوبن التي نجحت في عدد من المناطق للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وتقدمت بفارق كبير على المعارضة اليمينية والحزب الاشتراكي الحاكم في مناطق رئيسية أخرى.

 

ورغم أن الحزب الحاكم يلعب على ورقة الوحدة الوطنية خلف فرنسوا هولاند، فإنه يعاني من فشل السلطة التنفيذية، في احتواء البطالة التي باتت في مستوى شبه قياس، كما يعاني الحزب الاشتراكي ضعفا يطال بصورة إجمالية اليسار، الذي يتقدم الى الانتخابات منقسما، ويسعى الى لملمة صفوفه.

أما حزب الجمهوريين، بزعامة الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، فقد تراجع لأن هولاند انتزع منه عددا من الطروحات على صعيد مكافحة الإرهاب، كما أنه أظهر انقسامات خرجت عن موقف الوحدة الوطنية منذ الاعتداءات. وما يمكن تأكيده هو أن فرنسا خرجت من الثنائية الحزبية التقليدية، حيث كان اليمين واليسار يتواجهان ويتعاقبان على السلطة. فالجبهة الوطنية أصبحت الطرف السياسي الثالث .

وارتفعت نسبة التأييد للجبهة الوطنية بمقدار انحسار التأييد لحزب “الجمهوريون” الذي يرأسه ساركوزي وحلفاؤه، والذي، سعى إلى انتهاج خطاب سياسي يميني متشدد، بما يخص الإسلام والمهاجرين والمطالبة بإعادة فرض الرقابة على الحدود والتفاوض مجددا بشأن معاهدة شنغن، كل ذلك  لوقف النزف لدى ناخبيه.

اليمين المتطرف تقدم لأن الفرنسيين غاضبون وخائفون، خاصة بعد أن هيمنت اعتداءات الشهر الماضي، التي تعد الأسوأ في تاريخ فرنسا، والتي خلفت 130 قتيلا ومئات الجرحى، على حملة الانتخابات المحلية. الحزب المستفيد من هذه الأحداث هو حزب”الجبهة الوطنية”.

وثمة إجماع بين المحللين السياسيين في باريس أن الهجمات الإرهابية خدمت اليمين المتطرف ووفرت له الوقود ليغذي حملة الكراهية ضد الإسلام والأجانب.  وذهبت مارين لوبن في دعايتها الانتخابية إلى حد التحذير من أن المسلمين “سيحلون الشريعة محل الدستور الفرنسي العلماني”. أما ماريون مارشال لوبن، فقد شددت على أن فرنسا “بلد الكاتدرائيات وليست بلد المساجد، وأن الإسلام لا يمكن أن يحتل موقعا موازيا للديانة المسيحية لأن فرنسا بلد مسيحي”.

ساهم هذا الخطاب السياسي المعادي للإسلام في ارتفاع الحوادث المناهضة للمسلمين. وتتوقع “جمعية التصدي للخوف من الإسلام في فرنسا” مزيداً من الحوادث في الأسابيع المقبلة، لأن”هجمات باريس شجعت جماعات قومية متطرفة واليمين المتطرف وعنصريين على استهداف المسلمين”. وقالت: “إنهم يستغلون هذه الأجواء للهجوم”. وكشفت:” أن حالة الطوارئ التي فرضت بعد هجمات باريس أدت إلى تزايد الشكاوى من وحشية الشرطة التي داهم أفرادها منازل لتفتيشها ووضع أشخاص تحت الإقامة الجبرية”، في حين أعلن وزير الداخلية الفرنسي برنار كازانوف أن الشرطة أقفلت ثلاثة مساجد، وهذه المرة الأولى، تتخذ فرنسا إجراء كهذا في حق أماكن للعبادة يشتبه في أنها تدعو الى “التطرف الإسلامي”.

فقد عاشت أوروبا صيفاً كابوسياً مع تدفق موجات اللاجئين في هجرة جماعية وصفتها الميديا الأوروبية بالكبرى. الأزمة الناشئة عن الصراع المسلح في سوريا، وضعت الاتحاد الاوروبي بمواجهة تحديات بالغة الخطورة، وأثارت فيضاناً من الانقسامات المجتمعية، والمشاعر المتأججة والمتوجسة من تنامي الإرهاب والاصولية الإسلاموية، وخطط مزعومة عن أسلمة اوروبا، تروج لها الأحزاب القومية المتشددة والجماعات الأصولية المسيحية.

وكشف تقرير أعدته منظمة “تيل ماما” البريطانية لمكافحة الإسلاموفوبيا، أن المسلمين في بريطانيا تعرضوا منذ اعتداءات باريس لـ 115 هجوما، وأن هذه شملت اعتداءات لفظية وجسدية، وأشار إلى أن غالبية الضحايا هن نساء وفتيات محجبات. هذه الموجة وصلت الى الولايات المتحدة والى أعلى المستويات. فقد دعا البليونير دونالد ترامب، أبرز المرشحين الجمهوريين لخوض انتخابات الرئاسة الأميركية المرتقبة العام المقبل، إلى حظر كامل على دخول المسلمين الولايات المتحدة…

تصريحات ترامب أثارت تنديداً واسعاً، إذ اعتبر الناطق باسم البيت الأبيض جوش إرنست أن المرشح الجمهوري يسعى إلى استغلال جانب أكثر ظلاماً، ويحاول اللعب على مخاوف الناس، من أجل حشد تأييد لحملته”. وأضاف أنه بدل إدانة المسلمين، على المسؤولين الأميركيين أن يعملوا مع قادتهم لاستئصال التطرف”، مشيراً إلى أن تنظيم “داعش” يحاول الإيحاء بوجود حرب بين الولايات المتحدة والمسلمين.

يقول مفكرون وخبراء في أوروبا إن عمليات “داعش” الإرهابية كشفت عن صراع ثقافي وليس صراع حضارات. في الغرب يحترمون الديمقراطية، إنها نتاج حروب خاضها الآباء والأجداد كي يتنعم بها الأبناء، إضافة إلى قيم احترام القوانين والأنظمة. وبرغم أن الديمقراطية أثبتت أنها النظام السياسي الأكثر فعالية في التاريخ الحديث، فإنها أمام الإرهاب أصبحت ضعيفة. لذلك بعد وقوع عمليات “داعش” الإجرامية، تراجعت الديمقراطية لتفسح المجال أمام إجراءات قد يصفها البعض بالتعسفية: إغلاق الحدود، وقف القطارات، نشر قوات مسلحة في باريس، الطلب من المواطنين التزام منازلهم. وقد تؤدي إلى تعزيز اليمين المتطرف، والعودة إلى الصراعات على أساس الهوية والعرق والدين في أوروبا.

في المقابل يقول محللون في الخليج (السعودية خصوصا) إنه لا بد من الاعتراف أن الغرب في حال ارتباك أمام الإرهاب. مذبحة باريس التي تبناها تنظيم “داعش” لم تكشف شيئاً جديداً عن مدى وحشية هذا التنظيم الإرهابي وهمجيته. لكنها أطلقت حالة من الهستيريا في الغرب يمكن تسميتها بـ”هستيريا داعش”..

فرنسا تتغيّر… ليس داخلياً فحسب وإنما خارجياً، فقد حددت عدوها “الإرهاب وداعش”، وبدأت بتغيير سياستها في الشرق الاوسط بدءا من سوريا، حيث لم يعد وزير خارجيتھا لوران فابيوس يرى ضرورة لرحيل الرئيس الأسد الآن، قبل تحقيق انتقال في السلطة.

التغيير في فرنسا لم يقتصر على تبدل الخريطة السياسية والحزبية، وإنما السلوك الفردي والجماعي يتغير،مع تنامي الشعور الوطني وفي موازاته ما يسمى بـ”الإسلاموفوبيا”.  فقد أيقظت الھجمات التي شنھا متشددو “داعش” في العاصمة الفرنسية باريس  مشاعر وطنية في فرنسا لم تُرصد منذ عقود في البلاد، حيث تدفق آلاف الفرنسيين للانضمام إلى الجيش، تأتي ھذه الطفرة فيما يسارع الرئيس فرنسوا ھولاند من أجل تعزيز الإنفاق العسكري، لمحاربة ما وصفه بالتھديد الإرھابي المتنامي داخل الأراضي الفرنسية وخارجھا.
وهكذا أصبحت فرنسا خاصة وأوروبا بشكل عام بين نارين : إرهاب داعش والقاعدة  وسلالتهما من جهة ومن جهة أخرى حركات عنصرية وعداء للاسلام .فهل تغير أوروبا سياساتها واولوياتها تجاه المسائل الكبرى في العالم العربي ؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.