«القيصر» ينعى الأحادية القطبية وجيشه يشيّع

صحيفة الوطن السورية-

عبد المنعم علي عيسى:

اليوم لربما بات من الإجحاف، أو أقله عدم الإنصاف، القول بأن انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي هو الذي ساد العالم لمدة ثلاثة عقود انصرمت، ولربما كان واقعياً أكثر القول إن ذلك النظام لم يعمر لأكثر من عشر سنوات ونيف، فهو بدأ صرخته الأولى مطلع العام 1991 مع إعلان الولايات المتحدة لإطلاق حرب «عاصفة الصحراء» في الكويت، ليصل ذروته في حرب كوسوفو 1999 التي أدت إلى تفتيت يوغسلافيا وغيابها عن الوجود، ليتخذ فيما بعد مساراً انحدارياً مع تسجيل نقاط حضور، فرضتها أحداث أيلول 2001 في نيويورك، كانت محطتاها الأبرز في أفغانستان 2001، وفي العراق 2003.

كانت الولايات المتحدة قد خرجت في نهاية الحرب الباردة بنصر إستراتيجي حاسم وجدت معه نفسها قائدة لعالم كان في جزء وازن منه مسحوراً بذلك النصر الذي لم تطلق فيه طلقة واحدة، وهو يميل لقبول زعامتها، على حين القليل كان مضطراً لقبول هذي الأخيرة على مضض، وفي سياق ممارسة الزعامة يمكن القول إن الولايات المتحدة خاضت تلك التجربة على مستويات ثلاثة، أولها أيديولوجي تمثل بتربع صموئيل هنتغتون القائل بـ«صدام الحضارات» وفرنسيس فوكوياما الذي قال بـ«نهاية التاريخ» على ذروة الفكر في الغرب، ومن حيث النتيجة قادت الإرهاصات السابقة إلى استيلاد نهج كان قد أطلق عليه اختصاراً اسم «العولمة» التي كانت ترمي إلى جعل العالم أكثر قرباً من الأميركيين سياسياً واقتصادياً، بل حتى في المزاج العام وطرق الحياة وصولاً إلى العادات وحب «الهمبرغر»، وثانيها اقتصادي عبر تعميق ربط الاقتصادات الكبرى بالنظام الاقتصادي الأميركي، وعلى الرغم من أن ذلك الربط كان قائماً، وقوياً، حتى في زمن الحرب الباردة، إلا أن «شارع وول ستريت» وأذرعه المتعددة والمتوغلة، أضحى في ما بعد هذي الأخيرة حاكماً حقيقياً على مصائر الشعوب، يجوع منها ما يريد، ويرفع من يرضى عليها إلى مصاف «المستورين» فحسب.

يروي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» وقائع مشادة حصلت بين وزيري خارجية الولايات المتحدة هنري كيسنجر وفرنسا ميشيل جوبير في باريس عام 1974، والمشادة حصلت في سياق اجتماع دعا إليه الحلفاء الغربيون في أعقاب الفورة النفطية الحاصلة ما بعد حرب تشرين 1973، تقول الوقائع إن جوبير سارع إلى اتهام نظيره بأن بلاد هذا الأخير هي التي تقف وراء ارتفاع أسعار النفط قائلاً: «هل تظنون أننا لا ندرك بأن ما يجري هو لعبة تديرونها أنتم، وأن الفائض في الأسعار سوف يجد طريقه إلى خزائنكم»؟ فرد عليه كيسنجر: «أنا لا يهمني ما تدركون وما لا تدركون، ما يهمني أن تعرفوا أن مشروع مارشال انتهى، لقد ساعدناكم حتى باتت اقتصاداتكم تشكل أكبر منافس لنا»، وإذا ما كان كيسنجر في رده السابق، الذي كان في عز الحرب الباردة أي في ذروة الاحتياج الأميركي للحلفاء، قد كشف عن عمق النيات الأميركية مؤكداً أن بلاده لا تقبل الشراكة، بل الدوران في فلكها فحسب، فكيف سيكون حالها ما بعد انفرادها بالهيمنة المطلقة في أعقاب 1991 فصاعداً؟ أما ثالثها السياسي فقد كان نتاجاً لمخرجات المستويين السابقين، وتلك نتيجة طبيعة لكون السياسة في إطارها العام ليست سوى انعكاس لحقائق اقتصادية واجتماعية ترتكز إليهما في رسم أدق تفاصيلها.

كان نظام القطبية الواحد، بعد مرور عشرة أعوام على سيادته، يعاني وهناً عاماً داخلياً تمثل في الارتباك الحاصل بين المستويات الثلاثة، فلا «العولمة» استطاعت التأسيس لثقافة العصر الأميركي كما أراد لها منظروها، ولا الاقتصاد العملاق استطاع الحفاظ على فوارقه القائمة مع الآخرين لحظة الانطلاق نحو السباق، وكنتيجة أيضاً راحت السياسات تتماوج بين تجريب الخيارات الكفيلة بإبقاء الولايات المتحدة على رأس هرم العالم، وفي الغضون راح «الصيادون» ينضحون العملاق بسهام كانوا مدركين في حينها أنها لن تميته، لكنها بالتأكيد سوف تصيبه بالجراح، وفي هذا السياق سنشهد مثلاً تأسيس «منظمة شنغهاي» التي دعا بيانها التأسيسي لعالم متعدد الأقطاب، ثم تجمع دول «البريكس» الذي جاء في إطار أكثر واقعية، وعلى الرغم من أن كلا المسارين قد تعثر بفعل حسابات صينية شديدة التعقيد، لكن «الزرع» ظل حياً ومحافظاً على حيويته التي راحت تتحفز بعيد أزمة البنوك الأميركية الشهيرة صيف عام 2008، حتى إذا أتم العقد الأول من هذا القرن سنيه كلها كانت الأرقام تشير إلى اقتراب الصين من عرش الولايات المتحدة الاقتصادي، بل مهددة بإزاحتها عنه.

ما بعد النهوض الصيني، وعزم روسيا على إحداث تغييرات جيوسياسية في محيطها من شأنها أن تمهد الطريق أمامها لاستعادة دورها العالمي، دخلت الولايات المتحدة مراحل التجريب التي يمكن لحظها في التناقض الحاصل بين إدارات باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، تجاه العلاقة مع الغرب، ثم ركائزية «الناتو» في تلك العلاقة، ثم في تحديد من «الخصوم» ومن «الأعداء»، والثابت هو التناقض آنف الذكر بين هذا الثالوث السابق كان يشير ضمناً إلى وجود مناخات مهيئة في الداخل الأميركي لإمكانية تهاوي البلاد من على رأس هرم العالم، وما الاختلاف في توصيف الخصوم والأعداء إلا استعداد لقبول مبدأ الشراكة الإستراتيجية مع القوى الناهضة التي بدا أن صعودها ذاهب نحو المزيد، لكن الخلاف، فيما بين هؤلاء، حول هل يجب أن يحدث ذلك بعد حرب أم من دونها؟

بعد أيام قليلة على بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، تكشف الكثير مما يؤكد المناخات السابقة الذكر، وحالة الاستعداد الآنفة الذكر أيضاً، ففي 27 شباط الماضي قال المستشار الألماني أولاف شولتز أمام البرلمان الذي عقد جلسة استثنائية من أجل البحث في الأزمة الأوكرانية: إن «ألمانيا عزمت على تعزيز ترسانتها العسكرية» ثم أعلن عن «تخصيص 100 مليار يورو هذا العام لتحديث القدرات المسلحة»، ثم تلا ذلك إقرار البرلمان الياباني لزيادة الإنفاق العسكري، وإلغاء الحظر المعمول به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على استخدام القوات المسلحة اليابانية خارج حدودها.

هذان الحدثان يمثلان منعطفاً مهماً في التوازنات القائمة في العالم منذ عام 1945، لكنهما في الآن ذاته يمثلان أيضاً إقراراً أميركياً بفقدان مركز القيادة العالمي، فهما، وإن جاءا في ظرف دقيق استغلته برلين وطوكيو على حد سواء لبعث النزعة العسكرية في بلديهما بعد سبات دام ثمانية عقود، ما كانا ليحدثا لولا إيماءة أميركية تريد بها واشنطن تعزيز مواقعها في مواجهة موسكو راهناً، وبكين في وقت لاحق.

لعب بكرات النار، وما استدعاه هو حالة فقدان للتوازن في دائرة صنع القرار السياسي الأميركي التي أيقنت أن الجيش الروسي راهناً يقوم بتشييع نظام هيمنتها الآخذ بالتآكل بعوامل بات من الصعب السيطرة عليها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.