في أبعاد “غزوة بريتال” من جرود عرسال

lebanon-east-montains

إبراهيم علوش:
تحولت المناطق الواقعة على تخوم دول المنطقة، أي على تخوم التفكيك الأول الذي تكرس خلال الغزو الأوروبي خلال فترة حكم السلطان عبد الحميد، منذ ما قبل سايكس-بيكو، إلى بؤرٍ لاحتضان مشروع التفكيك الثاني في القرن الواحد والعشرين. ويصح هذا على “ولاية الفرات” التي أعلنتها “داعش” في نهاية شهر آب الفائت من مدينتي البوكمال السورية والقائم العراقية وقراهما، إلى جرود عرسال والمنطقة الواصلة بين القلمون والزبداني في لبنان وسورية، إلى الصحراء المترامية بين مصر وليبيا أو “جند الخلافة” بين تونس والجزائر، ناهيك عن عقدة معبر رفح بين غزة وسيناء، وما اصبحت تمثله سيناء كقاعدة لاستهداف الدولة المركزية المصرية بغض النظر عمن يحكمها.

كل ما في حياتنا العربية المعاصرة يدل على أن الحدود بين الأقطار العربية باتت بؤر استقطاب لأدوات تفكيك الأقطار العربية نفسها. وذلك أن التشابك الجغرافي-السياسي، والطائفي والثقافي والتاريخي، وتمادي البادية والصحراء، لا يتبخر فجأة بمجرد رسم خطوط وهمية فوق الرمال الحارة. فما يجري ليس سوى المحصلة الموضوعية لقوانين التجزئة، وصعود التكفير وحركاته هو تاريخياً حصيلة أفول المشروع القومي. فتخفيض السقف السياسي مؤقتاً، من طموح تحقيق الوحدة القومية إلى “طموح” الحفاظ على وحدة القطر، لا يساوي على الإطلاق التخلي عن المشروع القومي الذي يمثل وحده النقيض الجذري للتكفير والطائفية والتفكيك بكل أشكاله.

يقول أبو بكر ناجي في كتاب “إدارة التوحش”، وهو أحد المرجعيات النظرية للحركات التكفيرية، بأن استهداف المناطق الطرفية، مثل عرسال أو بريتال في لبنان مثلاً، واستهداف انابيب النفط والغاز الطويلة، أو الملاهي وغيرها مما لا يبدو أنه ذو أهمية استراتيجية كبيرة، يرمي لدفع الدول المركزية لتركيز أفضل قواها على حمايتها وترك المناطق الطرفية غير محمية وهو ما يسحب مظلة الدولة عنها لتصبح مناطق “توحش” وفوضى وإجرام مما يدفع أهلها للقبول بأي قوة قادرة على فرض الأمن والنظام فيها، وهنا يبدأ تأسيس “الدولة الإسلامية” في الأطراف مع تكرار العملية نفسها في جوارها وصولاً إلى المراكز.

إذن استهداف لبنان وجيشه انطلاقاً من جرود البقاع الشرقي عبارة عن عنوان استراتيجي بالنسبة للجماعات التكفيرية تم تكراره في عدة أقطار عربية من قبلُ، ومحاولة النفاذ باتجاه بريتال ليست فقط لفتح خط تموين وإمداد وتواصل جديد بين الزبداني والقلمون، بعدما تم إغلاق جرد عرسال على العصابات المسلحة من قبل الجيشين اللبناني والسوري وحزب الله، بل هي جزء من نهج استراتيجي عند الجماعات التكفيرية، فإذا تم النظر لمحاولة الاختراق التكفيرية باتجاه بريتال تكتيكياً وبشكل منفصل عن السياق العام للمعارك، فإنها ستبدو كمحاولة لفك حصار طبعاً، ولكن فعلياً للوصول إلى أين؟ وكيف يُفك الحصار عبر اقتحام بيئة معادية تماماً، فيها عشرات القرى والبلدات الشيعية من الشمال الغربي، وعشرات القرى والبلدات الشيعية والمسيحية غرباً، وصولاً للبقاع الغربي؟ ألا يتطلب اختراقٌ من هذا النوع هجوماً أكبر بكثير من الذي وقع على تلة عين الساعة قرب بريتال؟

ربما بدا ما جرى هجوماً مباغتاً في العيد على مواقع حزب الله، وربما أوحى ذلك بامتلاك زمام المبادرة والقدرة على اختراق دفاعات الحزب، لكنه هجومٌ جاء يعبر عن أزمة حصار أساساً، وعن حجم الضغط الذي يعيشه من نفذوه بين براثن الحصار العسكري والطبيعة القاسية في الجرود الباردة مع بداية الشتاء. غير أنه يبقى هجوماً حقيقياً، وبصفته تلك لا يمكن أن نختزله بالسياق اللبناني أو حتى السوري فحسب، إذ يمكن فهمه أيضاً في سياق السعي التركي لإدارة التوحش في المناطق التي تسيطر عليها “داعش” في سورية والعراق لدفع حزب الله بعيداً عن سورية، ونقله من حالة هجومية إلى حالة دفاعية، فيما يكشر العثماني الجديد عن مطامعه إزاء وسط العراق وشرق سورية بذريعة “داعش” نفسها، خاصة بعد تصريح البرلمان التركي للجيش بالقيام بعمليات برية خارج تركيا. ومن المعروف أن جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، اتهم تركيا وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة بالمسؤولية عن دعم العصابات المسلحة في سورية، بالتالي بالمسؤولية عن صعود “داعش” و”النصرة”، وهو التصريح الذي اضطر للاعتذار عنه لاحقاً دون أن يعني ذلك أنه أتى بمثل هذا الكلام من خياله، أو أنه يمثل فقط دفاعاً عن إدارة أوباما التي يتهمها الجمهوريون عشية الانتخابات النصفية للكونغرس بأن اهمالها وتقاعسها يقف خلف صعود التكفيريين في سورية والعراق.

وقد كتبتُ عشية استيلاء “داعش” على الموصل بأن ثمة كتاب أعمدة ومعلقين في الولايات المتحدة يقترحون استلام تركيا للمناطق السنية في العراق وسورية لحل مشكلة “داعش”، وبأن مثل تلك الفكرة مطروحة على الطاولة، وقد جاء تعيين أحمد داوود أوغلو رئيساً للوزراء في تركيا، وهو صاحب فكرة إحياء العثمانية الجديدة، مؤشراً آخر على تكريس نزوع تركيا العدالة والتنمية للسيطرة على سورية والعراق من بوابة إدارة توحش “داعش” وأخواتها، وقلنا مراراً وتكراراً أن الضربات الأمريكية لـ”داعش” لا تستهدف ذلك التنظيم بمقدار ما تستهدف وضع اليد على سورية والعراق، وها هو التنظيم يتمدد في ظل ضربات هي، حتى الآن، اقرب للمداعبة منها لحرب، فيما تصور وسائل أعلام مختلفة تركيا وكأنها مستهدفة من “داعش” ولا بد لها أن ترد. فإذا كان هناك مشروعٌ لتمدد تركيا لشرق سورية، وربما حلب، ووسط العراق، فلا بد أن تتزايد الهجمات على حزب الله في لبنان لدفعه للانكفاء بعيداً عن سورية.

لكن المعركة ليست عسكرية فحسب، فعرسال التي عرفناها خلال الحرب الأهلية اللبنانية كانت يوماً ما معقلاً للقوى الوطنية والقومية واليسارية، لكن كيف لها أن تعود إلى سابق عهدها بدون مشروع وطني وقومي في لبنان وكل المنطقة؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.