هل تعي منظومة شنغهاي – بريكس أهمية تحرير مصر من القيود الأميركيّة؟

موقع قناة الميادين-

جمال واكيم:

سرّ سيطرة الولايات المتحدة على الطريق البحرية بين شرق المتوسط والمحيط الهندي يكمن في أنها تفرض هيمنتها على مصر التي تشكل القاعدة للتحكّم في هذه الطرق البحرية.

يقف العالم اليوم شاهداً على صراع بين كتلة الدول الأطلسية بقيادة الولايات المتحدة وعضوية الاتحاد الأوروبي وأستراليا ونيوزيلندا من جهة، وكتلة الدول الأوراسية بقيادة الصين وروسيا وعضوية إيران ووسط آسيا من جهة أخرى. هذه المواجهة هي استمرار لحركة التاريخ التي وضعت القوى البحرية دائماً في مواجهة القوى البرية.

وإذا عدنا إلى العصور القديمة مع ولادة النواة الأولى للنظام الدولي، وكان ذلك في منطقة المشرق، فإننا نجد مصر القديمة، ومعها حلفاؤها الكنعانيون الفينيقيون، ممثلين للقوى البحرية، في مواجهة العراق القديم وحلفائه في الفرات الأعلى، ممثلين للقوى البرية.

القوى البحرية في مواجهة القوى البرية
في عهود لاحقة، نجد القوى البحرية ممثلة باليونان القديم في مواجهة القوة البرية الكبرى آنذاك المتمثلة بفارس القديمة. وفي القرون الأولى للميلاد، نجد روما قوة بحرية في مواجهة فارس البارثية، ثم الساسانية قوة برية، ثم العراق البويهي في القرنين العاشر والحادي عشر قوة برية في مواجهة مصر الفاطمية كقوة بحرية.

وبين القرنين السادس عشر والثامن عشر، نجد الدولة العثمانية كقوة برية في مواجهة إسبانيا كقوة بحرية، وصولاً إلى العصور الحديثة التي وضعت بريطانيا كقوة بحرية في مواجهة الإمبراطورية الروسية كقوة برية. كان ذلك في القرن التاسع عشر قبل أن نشهد تنافساً بعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة كقوة بحرية والاتحاد السوفياتي كقوة برية.

هذه الدينامية التاريخية تتواصل في زمننا الحالي مع الثنائية التي تحكم عالمنا بين كتلة أطلسية بقيادة الولايات المتحدة تمثل القوى البحرية وكتلة أوراسية تضم الصين وروسيا ووسط آسيا وإيران وتمثل القوى البرية. وتبدو الكتلتان متعادلتين على صعيد موازين القوى؛ ففيما تتميز الكتلة البرية بعدد سكانها وقدراتها الإنتاجية، وهو ما كان يميز دائماً القوى البرية عبر التاريخ، فإن كتلة الدول الأطلسية تتميز بسيطرتها على طرق المواصلات البحرية، ومعها على التجارة الدولية التي يمر 80% منها عبر طرق الملاحة البحرية.

ونتيجة وعيها بميزة الكتلة الأطلسية عليها فيما يتعلَّق بالسيطرة على التجارة الدولية، وفي محاولة منها لإيجاد طرقها البحرية الخاصة بها، حاولت كتلة الدول البرية المتحالفة تحت مظلة منظمة شنغهاي للتعاون التحالف مع قوى مطلة على المحيط الهندي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية لتجاوز منطقة شمالي الأطلسي وشمالي المحيط الهادئ في النصف الشمالي من الكرة الأرضية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.

هذا يفسّر محاولاتها لخلق تحالف متمثّل بدول بريكس، التي ضمت، إلى جانب الصين وروسيا، 3 دول مطلة على المحيط الهندي وطرق الملاحة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، هي الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل.

صعود منظومة بريكس وأزمتها
شهدت منظمة بريكس نمواً مطرداً وصولاً إلى قمة الريو عام 2014، التي أعلنت جملة مقررات كان من شأنها كسر احتكار الولايات المتحدة للهيمنة العالمية، خصوصاً على قطاع المال، وذلك عبر إنشاء بنك التنمية برأسمال قدره مئة مليار دولار.

لكن الرد الأميركي جاء سريعاً عام 2016 بدعم انقلاب دستوري ضد رئيسة البرازيل ديلما روسيف التي كانت تحاول مواصلة سياسات سلفها لولا دا سيلفا في تحويل البرازيل إلى قوة إقليمية في قارة أميركا الجنوبية تتحدى الهيمنة الأميركية الشمالية.

كذلك، فإنَّ الولايات المتحدة دعمت احتجاجات في جنوب أفريقيا، وضربت حصاراً على الهند أرفقته بمغريات جعلتها تنقلب على الصين وتثير مشكلات معها فيما يتعلق بالتيبيت، ومع باكستان (حليفة الصين) فيما يتعلَّق بإقليم كشمير الذي كانت الصين تحاول النفاد منه إلى ميناء غوادر الباكستاني، ومنه إلى غرب المحيط الهندي.

كان مقدراً لمنظمة بريكس أن تواجه أزمة كبرى؛ فسبب وجود هذه المنظمة كان تحدي الهيمنة الأميركية على طرق الملاحة البحرية. ولأنَّ المنظمة لم تستطع كسر الهيمنة الأميركية على طرق الملاحة البحرية، فإنها وجدت نفسها محاصرة من الولايات المتحدة التي كانت في وضع يجعلها تفرض شروطها على كلٍّ من الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، بحكم سيطرتها على طرق الملاحة التي تشكّل المتنفّس لاقتصاديات هذه الدول.

أما أسباب فشل بريكس في كسر الهيمنة الأميركية على طرق الملاحة البحرية، فهي متعددة، لكن أهمها يكمن في سيطرة الولايات المتحدة على عقدة المواصلات البحرية في العالم، المتمثلة بالطرق البحرية بين شرق المتوسط والمحيط الهندي عبر البحر الأحمر. أما سرّ سيطرة الولايات المتحدة على هذا الطريق، فيكمن في أنه يفرض هيمنتها على مصر التي تشكل القاعدة للتحكّم في الطرق البحرية بين شرق المتوسط والمحيط الهندي.

أهمية مصر الجيوسياسية العالمية
منذ فجر التاريخ، كانت مصر القوة البحرية الأولى في العالم أو كانت تقع تحت هيمنة القوة البحرية الأولى في العالم، ولم تكن أي قوة بحرية قادرة على التفوق على نظيراتها ما لم تسيطر على مصر.

والجدير ذكره أن مصر هي في حقيقة الأمر جزيرة، فهي تمتلك ساحلاً على البحر المتوسط بطول 1000 كيلومتر يقابله شاطئ طوله 1000 كيلومتر على شاطئ البحر الأحمر، فيما تشكل الصحراء الغربية عازلاً طبيعياً مع شمال أفريقيا، وتشكل مرتفعات أسوان عازلاً طبيعياً مع السودان.

وفي الأزمنة القديمة، كانت مصر هي القوة البحرية الأولى في العالم في مواجهة القوة البرية الأولى في العالم، وهي العراق. وكان الفينيقيون (كنعانيو الساحل) يشكلون قوة بحرية رديفة لمصر وتابعة لها.

هذه الحال تطوّرت في وقت لاحق في الألف الأول قبل الميلاد، حين تمكن الآشوريون من احتلال مصر بعد عبورهم إليها من بر الشام. وكانت مصر تضعف وتقع تحت الاحتلال حين تفقد سيطرتها على تجارة شرق المتوسط أو حين تفقد السيطرة على بلاد الشام التي تشكّل عمقها الدفاعي من ناحية الشرق.

وكانت القوة التي تتمكّن من السيطرة على مصر تصبح القوة البحرية الأولى في العالم أو تكون القوة البرية الأولى في العالم في زمن سيطرة القوة البرية على العلاقات الدولية. هذه كانت حال فارس الأخمينية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وهذه كانت حال روما بين القرنين الأول قبل الميلاد والرابع للميلاد، وهذه كانت حال الإمبراطورية البيزنطية بين القرنين الخامس للميلاد وأواسط القرن السابع للميلاد.

وفي العصور الحديثة، كانت هذه هي حال مصر في ظلِّ الدولة العثمانية (أقوى قوة في العالم بين القرنين السادس عشر والثامن عشر)، وفي ظلِّ الهيمنة البريطانية بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، كما كانت حال مصر في ظلّ الهيمنة الأميركية منذ سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

وكانت مصر المتحررة من الهيمنة تؤدي دور القوة البحرية الأولى في العالم، كما كانت حالها في العهود القديمة، أو بين القرنين العاشر والثاني عشر أيام الفاطميين، أو في زمن الأيوبيين، ثم المماليك، بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن السادس عشر.

وفي العصور الحديثة، كانت هناك محاولتان لمصر لتؤدّي دوراً مستقلاً؛ الأولى كانت في زمن محمد علي باشا بين أوائل القرن التاسع عشر وأواسط القرن التاسع عشر، لكنَّ هذه المحاولة اصطدمت ببريطانيا العظمى التي كانت القوة البحرية الأولى في العالم التي تسيطر على شرق المتوسط والمحيط الهندي.

أما المرة الثانية، فكانت في زمن جمال عبد الناصر بين عامَي 1952 و1970، لكنَّ هذه المحاولة اصطدمت بالولايات المتحدة، وهي القوة البحرية الأولى في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا.

خلاصة
إذاً، يكمن سر فشل بريكس في السابق في أنها لم تكسر هيمنة الولايات المتحدة على طرق الملاحة البحرية عبر السعي لتحرير مصر من الهيمنة الأميركية، وبالتالي كسر هيمنة الولايات المتحدة على صلة الوصل بين شرق المتوسط والمحيط الهندي.

واليوم، تستعيد منظمة بريكس حيويتها مع انتخاب لولا دا سيلفا رئيساً للبرازيل، الأمر الذي سيجدد محاولة كسر الهيمنة الأميركية على طرق الملاحة البحرية، فهل تعي دول بريكس، ومعها منظمة شنغهاي للتعاون، الدروس التي يجب أن تكون قد استقتها من إخفاقها في السابق عبر تحرير مصر من الهيمنة الأميركية؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.