الأسرى.. نحو تبني آليات جديدة للمواجهة

صحيفة المنار الفلسطينية-

د. سنية الحسيني:

أعادت محاولة هروب ستة أسرى فلسطينيين من أحد سجون الاحتلال تأكيد ضرورة النظر إلى قضية الأسرى بمجملها بمنظور جديد. إن معاناة الأسرى الفلسطينيين لا تشبه معاناة أمثالهم من مقاتلي حركات التحرر أو جنود المعارك، لأنها جميعها انتهت أو ستنتهي إما بالتحرر أو بتفاهم الفرقاء، الا معاناة الأسرى الفلسطينيين فهي معاناة مستمرة، لأنها ببساطة ترتبط باحتلال يأبى الرحيل. إن معاناة الأسرى الفلسطينيين تعد الأشد وطأة والأكثر وبالاً، لأنها تمارس خارج نطاق القانون الدولي الإنساني أو قانون حقوق الإنسان المعمول بهما من قبل دول العالم، فإسرائيل لا تنكر فقط احتلالها للأراضي الفلسطينية وعدم إقرارها بانطباق معاهدتي جنيف الثالثة والرابعة على تلك الأراضي والأسرى الفلسطينيين فقط، وإنما تتعامل مع الأسرى الفلسطينيين كسجناء أمنيين، ضاربة بعرض الحائط جميع الاعتبارات الإنسانية أو القانونية.

وما بين 4850 أسيراً فلسطينياً يقبعون اليوم داخل سجون الاحتلال، هناك 225 قاصراً، و540 معتقلاً إدارياً و500 يعانون من الأمراض، عشرات منهم في وضع صحي خطير، ناهيك عن المعاملة غير الإنسانية التي يعاملون بها دون استثناء. لم تنجح المبادرات السياسية في تحرير الأسرى، فاتفاق السلام وتوقيع اتفاق أوسلو لم يفض إلى تحريرهم، كما هو متعارف عليه عند توقيع اتفاقات السلام، فإسرائيل لم تكن تنوي من الأساس إنهاء الاحتلال، كما لم تنجح عمليات تبادل الأسرى في تحريرهم أيضاً، لأن إسرائيل نجحت بالانقلاب على ما تم التفاهم عليه في إطارها، انطلاقاً من سيطرتها كقوة احتلال هي صاحبة الكلمة الأولى على الأرض.

إن هذه المعادلة تعني استمرار معاناة الأسرى إلى أجل غير معلوم، فهناك ما بين 750 ألف فلسطيني إلى حوالى مليون ذاقوا مرارة الأسر في سجون الاحتلال منذ عام 1967، استشهد منهم داخل السجن 226 أسيراً. واليوم هناك 543 أسيراً يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد، على الأقل لمرة واحدة، فعبدالله البرغوثي على سبيل المثال محكوم بـ 67 مؤبداً. كما أن هناك 34 أسيراً قضى في الأسر أكثر من ربع قرن، منهم 13 أسيراً تخطت سنواتهم خلف قضبان السجن ثلاثة عقود، اذ يلقب كريم يونس البالغ من العمر 62 عاماً بعميد الأسرى، لأنه أمضى في الأسر أكثر من 38 عاماً.

انطلاقاً من ضرورة الخروج بمقاربة لوقف معاناة الأسرى قدر الإمكان، لأنها في الواقع معضلة باقية بقاء الاحتلال، واسترشاداً بالتجربة الفلسطينية الطويلة في التعامل مع المحتل في إطار ملف الأسرى، يتضح أن اتباع استراتيجية تعتمد على الضغط وحصار الاحتلال، تجعل الموقف الفلسطيني أكثر قوة، وتمنح الأسرى فرصاً أفضل لتحسين ظروف أسرهم أو تحررهم. فما بين إضراب الأسرى عن الطعام من جهة، واتفاقات لتبادل الأسرى من جهة أخرى، حقق الفلسطينيون إنجازات ملموسة، على عكس مبادرات حسن النوايا التي تركت لأهواء المحتل ولم تُؤتِ أكلها كما أثبتت التجارب. ومن هنا نحن بحاجة إلى مزيد من آليات المواجهة والتصدي للاحتلال، والتركيز على أن يكون الأسرى الأشد تضرراً على رأس قوائم المحررين بغض النظر عن انتمائهم الحزبي.

إنه احتلال حتى وإن أنكرته إسرائيل، فمنذ عام 1967 لم تقر اسرائيل باحتلالها للاراضي الفلسطينية، متذرعة في البداية بأنها تسيطر على أراضي لا سيادة لها، لأنها لم تكن تتبع لدولة محددة، وبعد توقيع اتفاق أوسلو ادعت أن الأراضي الفلسطينية متنازع عليها. ورفضت إسرائيل انطلاقاً من مقاربتها السابقة تطبيق قواعد اتفاقيات جنيف التي تنظم علاقة سلطات الاحتلال بالسكان المدنيين، وسعت لفرض سيادتها بدلاً من ذلك من خلال إصدارها للأوامر العسكرية وإبقاء التعامل بها في الأراضي المحتلة رغم قيام السلطة، وضمت القدس وأخضعتها لقانونها المدني، والذي فرضته بعد ذلك أيضاً على مستوطنات الضفة الغربية.

إن إنكار إسرائيل لاحتلالها ومحاولة فرض سيادتها على الأراضي المحتلة لا يغير من الواقع القانوني لهذه الأراضي، والذي تؤكد عليه قرارات الشرعية الدولية قبل توقيع اتفاق أوسلو وبعده، إذ على الرغم من سيطرة الاحتلال على إقليم ما، فإن السيادة عليه لا تنتقل للسلطة المحتلة ولا تفقد الدولة المحتلة سيادتها، وحتى وإن أنكرت إسرائيل وجود دولة فلسطينية، لأن السيادة في هذه الحالة تنتقل للشعب المحتل، انطلاقاً من المبدأ الأساسي الخاص بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

والحقيقة أن فلسطين موجودة، قبل أن تنشأ دولة إسرائيل، والوثائق الرسمية التاريخية سواء العثمانية أو حتى البريطانية شاهدة على ذلك. ومن الصعب الاعتماد على قرار 181 العام 1947 ومخرجاته لإثبات شرعية إسرائيل وعدم شرعية فلسطين، لأنه في الأساس قرار صادر عن الجمعية العامة أي غير ملزم، وجُل من صوّت عليه من الدول الاستعمارية، عندما كانت غالبية الدول ترزح تحت الاستعمار، ودون أن تمتلك سواء الدول الاستعمارية أو الأمم المتحدة الحق في البت في مصير أرض لا تعود لها، وشعب من حقه أن يقرر مصيره. كما أنه وبعد حصول فلسطين على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012، وحصولها على عضوية المحكمة الجنائية الدولية بناء على ذلك المعطى، تصبح فلسطين ضمن الظروف التي تعيشها، من عمليات سيطرة وإخضاع وحصار بالقوة، دولة تحت الاحتلال ضمن كل المعطيات القانونية.

مقاومة المحتل، شرعتها الأديان السماوية قبل أن تجيزها القوانين الوضعية، فمقاومة الاحتلال الإسرائيلي واجب ديني ووطني لن تتوقف الا بخروج الاحتلال تماماً من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وينبثق مبدأ حق مقاومة الاحتلال والغزو الأجنبي، أساساً من مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال الوطني. وأكد ميثاق الأمم المتحدة والعهدان الدوليان لحقوق الإنسان والعشرات من قرارات الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية، على حق الشعوب في تقرير المصير، والتحرر من السيطرة الأجنبية، باستخدام كل ما في متناولها من وسائل. وتقر المادة السابعة من تعريف العدوان الوارد ضمن قرار الجمعية العامة، رقم 3314 الصادر عام 1974، بشرعية نضال الشعوب، ولا يعتبره عملاً عدوانياً. كما تنص المادة 45 من لائحة الحرب البرية المرفقة باتفاقية لاهاي لسنة 1907 على أنه “لا يجوز إجبار السكان على أداء قسم الولاء للسلطة المعادية”.

وضعت الشرعية الدولية إطاراً دولياً حامياً للمناضلين من أجل الحرية والاستقلال من الاحتلال والهيمنة الأجنبية، فقد اعتبر العرف الدولي، منذ القرن التاسع عشر، أن القوات الشعبية المتطوعة لمواجهة الأعداء، حركات مقاومة شعبية منظمة وأفرادها بحكم المحاربين ولهم حقوق محددة عند الأسر. وأعطت المادة الثانية من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي لعام 1907 صفة المحاربين، للسكان المدنيين الذين يقاومون المعتدي دون أن يكون لهم الوقت في تنظيم صفوفهم، وعلى ذلك الأساس أكدت الجمعية العامة في قرارات عدة على وجوب معاملة نشطاء حركات المقاومة كأسرى حرب عند اعتقالهم. وتم الإقرار بشرعية حركات التحرر والمقاومة ضد الاستعمار او الاحتلال في اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة لعام 1949 والبروتوكولين الإضافيين لاتفاقات جنيف لعام 1977، حيث ساوت المادة 34 من البروتوكول الإضافي الأول بين قوات منظمات التحرير والقوات المسلحة التابعة للدول.

يحظى أسرى الحرية الفلسطينيون بمعاملة خاصة في القانون الدولي، وتم تحديد معايير التعامل معهم، في قواعد قانونية محددة تتحداها إسرائيل، وترفض معاملة الأسرى الفلسطينيين ضمن نطاقها. وتظهر تلك القواعد في لائحة لاهاي الملحقة بالاتفاقية الرابعة لسنة 1907، واتفاقية جنيف الثانية لعام 1929 لتحسين حالة أسرى الحرب، واتفاقية جنيف الثالثة لعام 1948، والبروتوكول الإضافي الأول والثاني لعام 1977 الملحقين باتفاقيات جنيف الأربعة. ويتبنى القانون الدولي الإنساني الفكرة الأساس عن الأسر، باعتبار أن الأسر ليس عقوبة ولكنه إجراء وقائي، وأن الأسير ضحية من ضحايا الحرب، لذلك لا يجوز محاكمته الا في إطار عادل، ويجب الإفراج عنه بشكل فوري بعد انتهاء الأعمال العدائية. ولا يجيز القانون قتله ويوجب احترامه ومعاملته بإنسانية، وتقديم الرعاية الطبية له عند الحاجة، وعدم جواز تعذيبه بدنياً أو معنوياً، أو إكراهه أو تهديده للحصول على معلومات منه، وهو ما لا تلتزم به إسرائيل في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين، ويفتح المجال لاستخدامه فلسطينياً لفتح جبهة مواجهة إعلامية وقانونية وسياسية واسعة في الأروقة الدولية.

وعلى ما يبدو أن المبادرات الفلسطينية السياسية لتحرير الأسرى بعد توقيع اتفاق أوسلو لم تحقق ما هو مرجو منها، للتخفف من عناء الأسرى خصوصاً الذين قضوا سنوات طويلة في الأسر أو من حكم منهم بأحكام عالية. ويظهر ذلك في اتفاقيات وتفاهمات السلطة الفلسطينية في إطار اتفاق القاهرة عام 1994 وطابا عام 1995 ومذكرة واي ريفر عام 1998 واستئناف المفاوضات عام 2013، والتي نجحت بالفعل بإطلاق سراح الآلاف من الأسرى، لكن ضمن معطيات حددتها سلطات الاحتلال، وفي ظل اعتقال الاحتلال مئات الفلسطينيين بشكل يومي. ومعظم من أطلق سراحهم في تلك الاتفاقات والتفاهمات من ذوي الأحكام المخففة، أو من اقتربت مدة حكمهم على الانتهاء، وممن لا تصنفهم إسرائيل “ذوي الأيدي الملطخة بالدماء”، وليسوا أيضاً من مواطني القدس أو أراضي الـ 48. في المقابل وعلى الرغم من نجاح مبادرات تبادل الأسرى، التي جرت عامي 2004 و2011، ما بين حركة حزب الله و”حماس” على التوالي من جهة وبين إسرائيل من جهةٍ أخرى، في اختراق المعطيات جميعا التي وضعتها سلطات الاحتلال في مبادرات السلطة الفلسطينية، الا أن الاحتلال قوض ذلك الإنجاز من خلال إعادة أسر من تحرر مرة أخرى ودون سبب معروف، وهو ما يعرف بسياسة الباب الدوار.

لن تنتهي المبادرات السياسية لتحرير الأسرى، لكن يجب الوضع بعين الاعتبار أن القوة والضغط على إسرائيل يحرزان نتائج أفضل في عملية التفاوض، كما أنه يجب البحث عن البدائل التي تقوض سياسة الباب الدوار، كإجبار إسرائيل على تعهدات مثلاً. أخيراً، نجح الأسرى الفلسطينيون بالضغط على عدوهم من خلال الإضراب عن الطعام تارةً وإثارة الاضطرابات داخل السجون تارة أخرى، وتمكنوا بالفعل من إحراز نتائج إيجابية. ومن خلال العمل التكاملي على جميع المستويات السياسية والقانونية، ومن داخل السجن وخارجه، وبين جميع الأطياف الفلسطينية، ستكون القدرة على المواجهة في أفضل حالاتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.